الحوار الاجتماعي والمفاوضات الجماعية
يتعرض عمال القطاع الخاص إلى معاناة كبيرة في ظل قوانين الاستثمار التي صدرت لإقرار النهج الاقتصادي الجديد في سورية «اقتصاد السوق الاجتماعي»، ومنها مشروع تعديل القانون العمل /91/ لعام 1959، ومحاولة إلغاء المرسوم /49/ لعام 1962 الذي قدمت الطبقة العاملة من أجل إقراره الكثير من التضحيات، هذا فضلاً عن تفرد وزارة العمل وممثلي أرباب العمل بصياغة قوانين جديدة لا تتناسب مع مصلحه عمال القطاع الخاص
وقد زاد من هذه المعاناة استمرار ممارسات أرباب العمل بعدم الالتزام بالقوانين والأنظمة التي تنظم عمل القطاع الخاص، ومنها حرمان عمال القطاع الخاص في المنشآت الخاصة من معظم حقوقهم المادية والمعنوية، من خلال إجبارهم على العمل بالحد الأدنى للأجور ولفترات طويلة، وعدم منحهم العلاوات الدورية، وحرمانهم من الضمان الاجتماعي والمظلة التأمينية، ومخالفة المستثمرين للشروط الواردة في تراخيص منشآتهم حيث يتم دائماً اختصار الإعداد التي يتعهدون بتشغيلها، وتشغيل اليد العاملة الرخيصة من النساء والأطفال والأحداث، مخالفين بذلك قوانين العمل العربية والدولية. هذا فضلاً عن قيامهم بمنع وحرمان العمال من الانتساب إلى التنظيم النقابي، وإجبارهم على توقيع استقالات مسبقة.
و حسب الواقع الاقتصادي الجديد الذي ينمو فيه الاستثمار تتضاعف أعداد العمال في القطاع الخاص، مما يعني تكون مجموعة كبيرة من المطالب العمالية، وفي مقدمتها الأجور وشروط العمل، حيث يمتنع أرباب العمل في معظم الأحيان عن الالتزام بحق العمال في زيادة الأجور الدورية، أو الزيادات الطارئة التي يصدر فيها قرار من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، حيث لا تكون تلك القرارات ملزمة لأرباب العمل، رغم أنهم مشاركون بالتوقيع عليها، مما يدفع العمال في العديد من المعامل والشركات الخاصة إلى الاحتجاج الذي يعبَّر عنه أحياناً بالإضراب داخل المعمل لساعات، حيث يتكرر ذلك في عدة معامل وعلى فترات متباعدة، وهذه الاحتجاجات تنجح عندما تكون منظمة من العمال الأكثر وعياً، وتفشل أحياناً أخرى لضعف تجربة العمال في تنظيم أنفسهم، وعدم قدرتهم على إجراء مفاوضات مع رب العمل توصلهم إلى حقوقهم، وهذا له عدة أسباب أهمها غياب التنظيم النقابي عن قيادة الاحتجاجات والدفاع عن حقوق العمال والتفاوض الجدي.
إن أهم ما يتميز به عالم العمل في السنوات الأخيرة هو سيادة مبدأ الحوار بين أطراف الإنتاج الثلاثة (عمال، أرباب عمل، حكومة)، ويأتي ذلك في ظل ضعف دور المنظمات العمالية، ولكن عملية التفاوض التي تجري بين العمال وأرباب العمل حول حقوق العمال لن تحقق أهدافها إذا لم يكن لدى العمال المعرفة والخبرة والجرأة، وهذه الصفات جميعها تكتسب في سياق العمل، ومن الخارج أيضاً، أي عن طريق نقل الوعي الضروري للعمال من حركتهم النقابية وأحزابهم الثورية التي من المفترض أن يكون في برامجها ما يكسب العمال الوعي الضروري الذي يمكنهم من إتمام المفاوضات وإيصالها إلى هدفها النهائي، مسلحين بالأدوات التي تحقق التوازن المطلوب الذي نصت عليه اتفاقيتا العمل الدولية /87/ لعام 1984 و /98/ لعام 1949 المتعلقتان بالحريات النقابية واستقلالية النقابات.
إن مبدأ المفاوضات الجماعية والحوار الاجتماعي كما أقرت بنوده منظمة العمل الدولية، حظي بموافقة الكثير من الدول، وتم التوقيع على الاتفاقيات الخاصة به، مما يعني إلزامية العمل وفقه في البلدان التي وقعت على تلك الاتفاقيات التي يتلخص جوهرها من وجهة نظر منظمة العمل الدولية بأنه لا توجد مصالح متضاربة أو تناقض بين الرأسمال والعمل، بل إن هناك خلافاً في وجهات النظر التي سيتم التقريب بينها من خلال الحوار والتفاوض وبمشاركة الدولة، حيث تشرف الدولة على هذا الحوار ولا تكون طرفاً متميزاً فيه لمصلحة أحد، ولكن التجربة المرة للطبقة العاملة تقول عكس ذلك، حيث تنحاز الحكومات وبشكل دائم لمصلحة أرباب العمل، مما يفقد الحوار أهم أركانه وهو المساواة بين الأطراف الثلاثة من حيث شروط التفاوض والحوار، دون أن يخضع ممثلو العمل لأية ضغوط تجعل نتيجة الحوار والتفاوض لمصلحة الحكومات وأرباب العمل. فقد جاء من ضمن أهداف الحوار كما هو منصوص عليها: «خلق ظروف للمصالحة بين وجهات النظر المختلفة أو المتناقضة في حل المشكلات الاقتصادية، الاجتماعية، الأمن الاجتماعي، الاستقرار السياسي والتنمية والتقدم الاجتماعي».
نعتقد أن ما هو مطلوب من العمال والنقابات وفقاً لتلك النصوص ليس الحوار والتفاوض حول مواضيع مختلف عليها يجري حلُّها عبر الحوار والتفاوض، فهذا الكلام من الناحية العامة صحيح ولكن الجوهر فيه إيصال الطبقة العاملة إلى ثقافة أن تقبل بالذئب وكأنه حمل وديع يريد اقتسام الغنائم الناتجة عن عمل العمال وجهدهم وعرقهم، فتكون الحصة الكبرى لذلك الذئب «الحمل» الذي تُهيئ له كل الظروف السياسية والتشريعية لكي تبقى له الحصة الكبيرة من الكعكة، أي لكي لا تهبط حصته من الأرباح، وتأمين ذلك يتم بمباركة الحكومات، وبالموقف السلمي للنقابات التي اختارت وقبلت بما قسمه الله لها وللعمال الذين تمثلهم، مما جعل الذئاب تستشرس وتكشر عن أنيابها التي ستنهش كل شيء.
إن التفاوض والحوار بالعموم لا يمكن الاستغناء عنه أو القفز فوقه، ولكن حتى يؤتي أكله ويحقق ما نريد منه لابد من الإبقاء على جهوزية الطبقة العاملة، وقدرتها على الرد دفاعاً عن حقوقها ومكتسباتها، وإلا ستخسر النقابات عبر هذا الشكل من الحوار والتفاوض كل شيء، حتى الطبقة العاملة!!