عقدة القانون في صراع المصالح
نعيش اليوم حمى الصراع على تعديل قانون العمل /91/ لعام 1959 بين الطبقات المعروفة تاريخياً بالطبقات المستغِلة، والطبقات المستغَلة، وفرسان الحلبة في هذا الصراع، هم ممثلو كلا الفريقين من المنظمات النقابية، ومن بعض الجهات الرسمية في الحكومة.
وأكذوبة «الإصلاح» التي تؤخذ ذريعة في هذا الصراع الدائر، وفي الجدل القائم حول ضرورات التعديل لمواكبة التطورات المستجدة، هي ستار تختبئ وراءه المصالح، والأهداف الحقيقية للمشروع الجديد.
صراع على المفردات
وإذا كان من مصلحة الفريق الأول التعمية في استخدام التعابير للنفاذ إلى الغرض المنشود في ظل نظام محرج له، لا يسمح بإبراز الأنياب بصورة فاضحة، فإن المنظمات النقابية التي قدمت عبر تاريخ كفاحها الطويل التضحيات الغالية، من دمائها وعرقها، في مواجهة الظلم والاستغلال والقهر، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، لا مصلحة لها إلا أن يصدر القانون بعبارات واضحة، للموازنة بين الحقوق والواجبات... وبتعابير قاطعة، غير حمالة للوجوه المتعددة، التي تفتح في المستقبل باب الاجتهاد على مصاريعه الواسعة، ليسهل الالتفاف من خلال أحكامه على الحقوق العمالية، وبالتالي مصادرتها، فيتحول القانون إلى فخ بدل أن يكون قانوناً ناظماً لعلاقات العمل.
ولا يجوز لممثلي العمال أن يتواضعوا في هذه المواجهة، أو أن يسلموا رقابهم للمجهول، بعد التجارب المريرة التي عاشوها في الماضي.. ولا يصح بعد هذا الشوط من النضال، وبعد التطور الذي بلغته البشرية، وبعد هذا الكم الكبير من الاتفاقيات الدولية (منها أكثر من /75/ اتفاقية موقعة من الحكومة السورية) أقرتها منظمة العمل الدولية والعربية، حول تشغيل العمال، وأجورهم، وحول البطالة، والضمان الصحي، وغير ذلك من الحقوق العمالية الملزمة لأصحاب الأعمال.. لايصح أن تكون تشريعات العمل في العهود المنصرمة، أحسن حالاً من أحكام القانون الجديد، الذي تحاول الحكومة فرضه على العمال بحجة مواكبة التطور، خلافاً لأحكام الدستور الذي اعتبر اقتصاد الدولة اقتصاداً مخططاً، يهدف إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال، كما اعتبر الثروات الطبيعية، والمرافق العامة، والمنشآت والمؤسسات التي تتولى الدولة إدارتها ملكية عامة لصالح الشعب، ومن واجب المواطنين حمايتها بكل الطرق المتاحة استناداً لأحكام الفقرة /1/ من المادة /14/ من الدستور.
في تضارب النصوص
ولو تناولنا مشروع القانون الذي أعدته الحكومة، وناقشنا مواده بموضوعية لخلصنا إلى ما يلي:
1 - في الأحكام العامة: المادة /2/ نسفت الفقرة /ج/ ما نصت عليه الفقرة /آ/ من المادة نفسها، ولا بد هنا من توضيح المعايير الموضوعية التي بموجبها يتم التفريق بين التمييز الذي نصت عليه الفقرة /آ/ وبين المؤهل الذي يتم في ضوئه الاستبعاد أو التفضيل اللذين يقتضيهما شغل العمل في منطوق الفقرة /ج/.
2 - إذا كانت الفقرة /4/ من المادة /5/ من القانون تستثني عمال الخدمة المنزلية من سريان أحكامه عليهم، فما مبرر النص عليهم في الفقرة /2/ من المادة /23/ في إطار المكاتب الخاصة، إن لم يتول القانون حماية حقوقهم ومصالحهم، وإذا كانت وزارة العمل هي صاحبة الالتزام بتنفيذ سياسة الاستخدام، ما مبرر فتح المكاتب الخاصة؟.. وهل تتصور الوزارة أن يتاح لمكاتبها تشغيل المتعطلين من العمال مهما اتخذته من تدابير، إن رخص بفتح هذه المكاتب، وحتى ولو توفرت النوايا الصادقة النزيهة؟
إن هذه المادة من القانون، تبطل عمل المادة /18/ من القانون نفسها، وهي نصوص متضاربة مع بعضها، وتتيح الالتفاف على حقوق المعطلين عن العمل، المسجلين في مكاتب التشغيل التابعة للوزارة، وتعرضهم للابتزاز، ولا مبرر لوجود مكاتب خاصة للتشغيل على الإطلاق، ويجب أن تحصر هذه المهمة بالجهة الرسمية المختصة، وبالتالي إلغاء كل الفصل الرابع من القانون لعدم لزومه.
3 - شطب عبارة «ولصاحب العمل إثبات العكس بنفس الطريقة» من الفقرة /ب/ من المادة /47/ من الباب الخامس (فصل عقد العمل الفردي)، حيث غدا لا مبرر لوجودها في القانون، وتتحقق مصلحة صاحب العمل، من حكم هذه الفقرة متى عجز العامل عن إثبات حقه...
4 - إضافة عبارة «وينقلب عقد العمل إلى عقد دائم غير محدد المدة»، في نهاية الفقرة /ب/ من المادة /49/ (من الباب الخامس، فصل عقد العمل الفردي) بحيث يصبح النص: «إذا انتهت مدة الاختبار، ولم يفسخ العقد، تدخل هذه المدة (أي مدة الاختبار) ضمن مدة خدمة العامل الفعلية، وينقلب عقد العمل إلى عقد دائم غير محدد المدة»...
5 - إن المادة /52/ تمثل أقصى ما توصل إليه العقل الرأسمالي في الدهاء، للتخلص من العمال، تحت ستار الأسباب الإدارية، أو الخارجة عن الإدارة، الدافعة لنقل مكان العمل، إلى مكان آخر، يبعد أكثر من /50/ كم... فما هي هذه الأسباب التي تستدعي رب العمل بعد استقرار عمل منشأته في الموقع الذي أقامها فيه، أن يفككها وينقلها إلى مكان آخر بعيد، ويتجشم نفقات لا حصر لها في عملية النقل، إن لم تكن وسيلة مبتكرة، هي أهم عنده من كل ما يخسره إزاء غرض قد تضطره الحاجة إليه في المستقبل... فكيف يمكن قبول هذا الكلام في نص القانون دون ضوابط صارمة تحول دون التفكير بالالتفاف على القانون؟!
6 - إلغاء المادة /56/ وما يتعلق بها من مواد حول الإخطار من القانون، إذ لا يجوز الاتفاق على ما يمس حقوق العمال الثابتة، وكل هذه التبريرات التي تضمنتها المادة بفقراتها الخمس من البند /آ/، والبند /ب/ وما يتبعها من مواد حول الإخطار، هي تبريرات تعسفية، وتتعارض مع شرعة حقوق الإنسان...
كيف تبنى جمهورية المستثمرين!!
أعطت المادة /64/ صاحب العمل الحق بإنهاء عقد عمل العامل في حالات معينة حددتها المادة المذكورة، تفصيلاً في حال ثبوت ارتكاب المخالفات المبينة فيها من العامل، وأتاحت له فوق ذلك، حق تسريحه لقاء تعويض محدد، حتى وإن ثبت عدم ارتكاب العامل إحدى المخالفات المنصوص عليها في المادة المذكورة.... وهذا ظلم واضح، ولا يصح لا قانونياً، ولا إنسانياً، ولا منطقياً، أن يكون صاحب العمل حراً في ممارسة الظلم والتعسف. ولا نرى هذه المادة، والمادة /65/ التي ألغت المرسوم /49/ لعام 1962 وتعديلاته، إلا نمطاً من التدليس على العامل، لإلغاء حقوق أقرها له المرسوم المذكور، بذريعة أن العقد شريعة المتعاقدين، وهي شريعة غير متوفرة، ولا يمكن أن تتوفر، إلا إذا كان طرفا العقد ندين متساويين في الرفض والقبول، وإرادتهما متساويتين في إمكانية كل طرف منهما بتقرير مصلحته المستقلة عن الآخر.. وما دام العامل بحكم حاجته للعمل، هو الطرف الأضعف، فإن هذه الندِّية في العقد لن تتحقق مهما زين ذوو المصالح الحديث عنه، ولمعوا صيغته وأهدافه في مشروع الحكومة الجديد، ويبقى العقد عقد إذعان، تنتفي فيه شريعة طرفٍ من أطرافه، وبالتالي لا يجوز قبول حكم هذه المادة بوضعها الجديد المعدل، أساساً لبناء علاقات عمل عادلة، بدلاً عن المرسوم /49/ لافتقاد العامل بمقتضاها أبسط أشكال الحماية.
كما إن إحالة مشروع القانون، إلى مجلس الشعب، دون الملاحظات التي أبداها الاتحاد العام لنقابات العمال عليه، لا يعبر عن الشفافية في التعامل، ولا المصداقية في التعاطي بينه وبين الوزارة المختصة (وزارة العمل) في القضايا العمالية المشتركة بينهما.. ويظهر الوزارة بمظهر المنحاز لمصالح أصحاب الأعمال ضد حقوق العاملين، وهذا ما يجعل العامل وتنظيمه النقابي على حد سواء، يفقدان الثقة، ويتوجسان خيفة من أن لا يكون القانون لغاية مواكبة التطور، الذي كان أحد أسباب المطالبة بتعديل قانون العمل /91/ لعام 1959، بل هو محاولة لنسف كل الإنجازات والمكاسب التي تحققت للعمال على مدى عقود طويلة، والعودة بالأمور إلى الوراء، تطلعاً لصياغة قوانين جديدة، لا تخدم إلا مصالح المستثمرين، وتكرس أوضاعاً تقودنا بكل ما تعنيه الكلمة، إلى نظام السوق الحرة، وما يترافق معه من استغلال وظلم وقهر وفساد ورق وعبودية، تضيع في أجوائها ومناخاتها كل القيم والمبادئ الناظمة والهادفة لإقامة علاقات اقتصادية واجتماعية وعمالية متوازنة، وذلك في إطار التوجه لإنهاء القطاع العام بكل نشاطاته المختلفة ـ الخدمية والإنتاجية والصناعية ـ ونقل البلاد إلى موقع الضعف الكامل، وانتقال القرار بعدئذ من سلطة الدولة، إلى سلطة ثلة من المستثمرين..
تجريد العامل من حقوقه الإنسانية
وإذا واصلنا التمعن بمشروع القانون سنجد أنه لا ينتهك حقوق العامل المهنية فقط، بل ينتهك حقوقه الإنسانية الأساسية، مما يحتم على الحركة النقابية النضال في سبيل عدم تمرير الكثير من الفقرات والمواد في هذا المشروع، ومنها:
1 - إلغاء الفقرة /ج/ من المادة /67/، لأنه لا يجوز أن يتاح لصاحب العمل حق تسريح العامل على نشاطه النقابي أو الانتخابي، ويتنافى هذا النص مع شرعة حقوق الإنسان، ومع كرامة الإنسان...
2 - إلغاء عبارة «وفي حال رفض صاحب العمل إعادة العامل إلى عمله، اعتبر ذلك منه تسريحاً يوجب التعويض المنصوص عليه في المادة /65/».
إلغاء هذه العبارة من نص الفقرة /ب/ من المادة /88/ لتعارضها مع الحقوق القانونية للعامل، وعلى المشرع أن يلزم صاحب العمل بإعادة العامل إلى عمله في هذه الحالة، وإلا أصبح القانون قانون شريعة الغاب، يأكل فيه القوي الضعيف...
3 - المادة /209/ غير منطقية وغير منصفة، فإذا وجدت المحكمة أن تسريح العامل غير مبرر، فواقع الحال يوجب عليها ، إلزام صاحب العمل بإعادة العامل إلى عمله، لا القبول والتسليم لرغبة صاحب العمل إن رفض إعادته في التعويض على العامل، وهذا النص يشجع صاحب العمل على الإفراط في استخدام السلطة لقهر العامل.
4 - تعديل الفقرة /و/ من المادة /225/ بما يحقق التوازن بموضوع وقف العمل، فلا يترك لصاحب العمل حرية وقف العمل إذا لم يبت الوزير المختص بالطلب، خلال المدة المحددة في الفقرة /ه/ من المادة نفسها، ولا بد أن يكون ثمة بت صريح بهذا الموضوع، حتى لا يكون ذلك مدعاة لاستعمال السلطة على نحو تعسفي بحقوق العمال ومصالحهم...
5 - المادة /228/ لا تراعي أبسط القواعد الحقوقية للإنسان، ولا يجوز أن يكون هكذا نص في قانون العمل، لخروجه عن كل المبادئ المنطقية والإنسانية...
6 - لا ضرورة لكل ما يتعلق بمكاتب التشغيل الخاصة في الباب الثالث عشر من القانون، ولا يجوز أن يكون ثمة أية مكاتب تشغيل خاصة، إلا لدى الجهة الرسمية المختصة، وحصر كل طلبات العمالة بمكاتب التشغيل العائدة لوزارة العمل، ومديرياتها في المحافظات، لضمان العدالة بعملية تشغيل العاطلين عن العمل، وإعطاء المفتشين المعتمدين في الوزارة حق الرقابة على هذه نشاطات جميعها...
7 - تعديل المادة /277/ في مشروع الحكومة، من حيث سريان أحكام القانون الجديد على عقود العمل السابقة، إذ لا يجوز أن يكون للقانون مفعول رجعي، ولا يجوز أن تسري أحكامه إلا على الأوضاع الناشئة من تاريخ صدوره...
فإذا كان مشروع الحكومة قد حقق بعض المعطيات الجديدة الجيدة، فإن كل هذه المعطيات لا تساوي شيئاً، ولا تعادل جزءاً يسيراً من الحقوق التي فقدها العامل، وفي مقدمتها إلغاء المرسوم /49/ الذي كان الضمانة الوحيدة لحماية العمال من التسريح التعسفي، ولا يجوز لممثلي العمال التنازل عن هذه الحقوق في المشروع الجديد الذي يفترض أن يكون أكثر تطوراً في حماية أوضاع العمال، وحماية حقوقهم المستقبلية. ويتوجب عليهم التمسك بمواقفهم التي عبروا عنها بمؤتمراتهم النقابية وبمناقشاتهم، في سياق الاعتراض على هذا المشروع الذي يفتقد كل أسس العدالة .