من الأرشيف العمالي: بين الأبيض والأسود
ما انفكت قوى النهب والفساد تمزق أوردة الوطن منذ عدة عقود، وتسلب خيراته وتبيح ثرواته وتنهبها على حساب الخزينة العامة ولقمة الجماهير الكادحة وابتلاع الجمل بما حمل من خلال تقويض الاقتصاد الوطني وإنزال الضربات المتلاحقة بالقطاع العام وتوجيه الحراب إلىصدور من يحاولون التصدي لها وإعاقتها عن تنفيذ مآربها. والملاحظ أن الحديث عن اقتصاد السوق يكثر منذ أواسط الثمانينيات. واللافت للنظر أن أشد المتحمسين له يتجنبون دائماً وضع تعريف محدد له، ويركزون في أكثر الأحوال على أنه يعني تنشيط رجال الأعمال فيعمليات الاستثمار، الإنتاج، البيع، الشراء.
إن اقتصاد السوق هو الاقتصاد الذي يعتمد على التفاعل بين العرض والطلب ولكن المشكلة أن البشرية خلال تطورها وخاصة منذ سيادة نمط الإنتاج البضاعي في الرأسمالية عرفت أشكالاً عديدة من هذا التفاعل بين العرض والطلب وهي على الأقل عرفت أربعة أشكال مناقتصاد السوق، أي أربعة أشكال من تفاعل العرض والطلب. لذلك من الطبيعي أن نطرح سؤالاً مشروعاً على الداعين إلى اقتصاد السوق: أي اقتصاد سوق تريدون؟! إن أمامنا نماذج أربعة:
الأول وهو الذي ساد في مرحلة المنافسة الحرة التي انتهت بحلول الرأسمالية الاحتكارية في أوائل القرن العشرين، كان العرض والطلب يتحركان بشكل عفوي راكضين وراء السعر الأعلى. والشكل الثاني هو الذي ظهر حين استتب أمر السوق أي التحكم بعمليات البيع والشراءبيد قلة قليلة من الرأسماليين وظهر الاحتكار، الذي مكَّنهم من التحكم بالعرض والطلب بحيث أبقوا الطلب متفوقاً على العرض ولو بشكل مصطنع للحفاظ على السعر الأعلى. والشكل الثالث ظهر حين انتقلت السلطة السياسية إلى أيدي العمال والفلاحين، بدأ التخطيط الشامل لكييتناسب العرض مع الطلب مما سمح بالتحكم الواعي بالسعر لمصلحة المجتمع. أما الشكل الرابع فقط ظهر عندما تحولت البيروقراطية في جهاز الدولة السوفيتية ونتيجة لكبح تطور الديمقراطية للجماهير الشعبية فتحولت البيروقراطية إلى برجوازية بيروقراطية. مستفيدة منموقعها المتحكم بالعرض والطلب فأخذت تصطنع اختناقات في السوق وبشكل مقصود مما أنشأ اقتصاد ظل وتحولت السوق إلى بقرة حلوب تستفيد منها القوى الفاسدة وقوى السوق التاريخية!!
والسؤال المشروع يبقى: أي اقتصاد سوق يريدون؟!.