«طرق الصحراء» للياباني اينوي: مخطوطات على ظهر الحمير... يا لليلة الفاتنة!
لم يكن الكاتب الارجنتيني الراحل جورج لويس بورغس، بالطبع، أول من جعل الكتب والوثائق والمخطوطات، شخصيات أساسية في بعض اعماله، حتى وإن كان واحداً من أبرز الذين فتحوا في العصور الحديثة، دروباً في هذا المجال، سار فيها، بعض كتاب متفاوتي الأهمية في أعمال أساسية لهم، ومن بينهم الايطالي اومبرتو ايكو (في «اسم الوردة» على الاقل) واللبناني - بالفرنسية - امين معلوف (في عدد لا بأس به من رواياته التاريخية الناجحة) ناهيك بالبولندي يان باتوفسكي (في «مخطوطة وُجدت في سراغوسا»).
فالنص المكتوب، مخطوطاً أكان أم مطبوعاً، اغرى الكتاب دائماً، باعتماده موضوعاً، او محوراً جانبياً، في اعمالهم. ولعلنا لا نبتعد عن الصواب إن نحن نظرنا هنا ناحية الكاتب الياباني يازوشي اينوي، باعتباره واحداً من الذين كتبوا عملاً اساسياً من حول النصوص الفكرية والثقافية والسعي الى انقاذها من الحريق - على غرار الاميركي راي برادبوري في «فهرنهايت 452»، التي حولها الفرنسي فرانسوا تروفو فيلماً شهيراً -. وكان ذلك بالنسبة الى اينوي في روايته «طرق الصحراء» التي تعتبر منذ نشرها في العام 1959، واحدة من اكثر الروايات شعبية في اليابان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومع هذا فإن احداث الرواية لا تدور في اليابان، بل في الصين... في معنى ان اينوي الياباني، كتب الرواية «الصينية» الاشهر في القرن المنصرم... لكن «طرق الصحراء» لم تكن، على اية حال، العمل الوحيد الذي استوحاه اينوي من تاريخ الصين وغيرها من مناطق شرق آسيا... كما سنرى. اما هنا فموضوعنا هو هذه الرواية التي استأثرت دائماً باهتمام القراء وترجمت الى عدد كبير من لغات العالم، وفي مقدمها اللغة الصينية... بالطبع.
تدور احداث «طرق الصحراء» في صين الصراعات الكبرى في القرن الحادي عشر الميلادي، اما بطل الرواية فهو شخص فرد، وجد ذات يوم ان الأقدار قد اختارته للقيام بمهمة تعجز عنها امم بأسرها: انقاذ كنز فكري ثقافي لا يقدر بثمن من أتون الحرائق والتزمّت والصراعات. وهذا الكنز يتمثل في اكثر من اربعين ألف وثيقة تعود الى ذلك الزمن وتبدو مهددة. منذ ما قبل بدء احداث الرواية يذكّرنا اينوي بكيف ان الباحثين اكتشفوا عند بدايات القرن العشرين، ذلك الكنز الحضاري الثقافي، في داخل مجموعة من المغارات تعرف باسم «ألف بوذا» ومكرسة للعبادة البوذية... وإذ يقول لنا الكاتب كل ما يمكن قوله حول القيمة التاريخية والفكرية لتلك الوثائق، ينتقل بنا مباشرة الى الرواية، وهو يشرح لنا كيف تمكنت الأقدار من انقاذ ذلك الكنز، مؤكداً ان آلة الاقدار في ذلك الانقاذ كانت رجلاً اسمه «خنغتي». ان المنطقة التي يحدث فيها ذلك كله تقع في الشمال الغربي للصين، في اقليم يتعايش فيه عدد كبير من الشعوب التي تألفت الأمة الصينية منها، على مدى الازمان، من صينيين اصليين وخيكسيا وأواغور وخيطان وغيرهم. هذه الشعوب التي كان عليها ان تتعايش مع بعضها بعضاً في تلك المنطقة، كانت تعيش في معظم الاحيان، على اية حال، صراعات لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد. ولما كانت الديانة البوذية المسيطرة، تعرف قيمة الوثائق المودعة في مغارات «ألف بوذا» وأن الخطر يحيق بها، كان لا بد لأقدارها من ان تختار من تعهد اليه بالمهمة التي تكاد تبدو مستحيلة: مهمة انقاذ الوثائق. وهكذا نجدنا وجهاً لوجه مع «خنغتي» وهو اصلاً من أبناء مدينة كايغنغ، عاصمة امبراطورية صونغ الصينية في ذلك الحين. و «خنغتي» هذا، يصل مع بدء الرواية الى العاصمة لكي يقدم نفسه الى المسؤولين بصفته متبارياً في ما كان يسمى بـ «الامتحانات الامبراطورية». وهو ما إن بدأ خوض الامتحانات حتى كشف عن مهارات وقدرات وقدر من الذكاء لا تضاهى... غير ان هذا كله لم يمنعه، اذ كان السفر قد انهكه، من ان ينعس في النهاية غافلاً عن الامتحانات الاخيرة. وهكذا سقط من دون قصد منه، فأصيب بالإحباط ليبدأ تجواله وتشرده في المدينة، على غير هدى. وفيما هو يتجول، تمكن ذات لحظة من ان ينقذ من موت محقّق امرأة من شعب الخيكسيا، كافأته على انقاذها بأن اعطته قطعة قماش طرّزت عليها كتابة بحروف لا يفهمها ولا يفقه لها معنى.
واذ ينبهر صاحبنا بتلك الكتابة، يقرر فك طلاسمها... شاعراً بأن بلاد الخيكسيا قد باتت تشكل نقطة جذب له بحيث لم يعد امامه من مهرب إلا في الذهاب الى هناك... وهكذا تغير بالنسبة اليه هدف حياته، وراح يغوص في الدروب التي توصله الى بلاد حلمه الجديدة. وهو بالفعل وصل الى المكان بعد احد عشر شهراً، ولكن، ليجد نفسه مجنداً في طليعة القوات العسكرية التابعة للخيكسيا، وهي قوات مؤلفة اصلاً من مرتزقة صينيين. ويتحول «خينغتي» تبعاً لهذا الى مقاتل شرس، في معارك لا يتردد دون خوضها، عند حدود صحراء غوبي... معارك لا تبدو ذات اهداف، باستثناء السيطرة على الشعوب والهيمنة على اراضٍ تربّى فيها احسن خيول في العالم، وتفتح الآفاق انطلاقاً منها لشتى انواع التجارة مع المناطق الواقعة غربي الصين. وهكذا يصبح بطلنا مقاتلاً عنيداً... ولكن من دون هدف خاص به. ومع هذا، يبدو لنا واضحاً عند هذا المستوى من الاحداث ان ثمة ثلاثة اعتبارات تتحكم بمصير هذا البطل، حتى من دون ان يعي ذلك تماماً: وانغلي، رفيق سلاحه ورئيسه المحبوب، أميرة من شعب الواغور، فاتنة خلبت لبّه وصارت حب حياته، وأخيراً كوانغ، الأمير التاجر، المتسلط الذي صار «خينغتي» خادمه الامين.
وهنا في خضم هذه الحياة الأفّاقة والشجاعة التي صارت حياته، يدرك البطل ان الأقدار هي التي تسيره الآن على هواها... وهي التي تدفعه الى أن يتعلم الأبجدية الخيكسية، مكتشفاً الأفكار البوذية معتنقاً لها، في وقت لم يكن العامة قد صاروا بوذيين حقيقيين بعد... ومن خلال اكتشاف البوذية، اكتشف «خينغتي» وجود النصوص البوذية المقدسة التي يطلق عليها اسم «سوترا». وهكذا يكون قد خطا الخطوة الاخيرة التي تقوده الى ان ينقذ في المدينة المقدسة (التي تحف بها المعارك، وبالتالي الحرائق، من كل ناحية اذ حاصرتها القوات الخيكسية، وقوات مسلحي الشمال الغربي) كل ذلك الكم الهائل من الوثائق التي تحمل نصوصاً وكتابات بوذية لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر، ومن هنا نفاستها، وأهميتها. ولسوف يبدو واضحاً ان ما من احد غيره كان في امكانه ان يقوم بالمهمة، التي سيكتشف في نهاية الامر ان يد الأقدار كانت هي التي قادته منذ البداية اليها. فهو، اذ يتأمل حياته ومسارها في الصفحات الاخيرة من الكتاب، يتبين له، ان خط حياته ومساره، انما سار في تلك الوجهة منذ اللحظات الاولى، وبما في ذلك سقوطه في الامتحانات الامبريالية التي صارت بالنسبة اليه الآن مجرد ذكريات بعيدة. اما المشهد الذي يرضيه في النهاية ويجعله ضاحكاً في وجه أقداره، فهو مشهد «الستين حيواناً من حمير وغيرها التي حملت على ظهورها النصوص والوثائق واللفائف، مجتازة الصحراء التي تخبئها عن نور القمر الساطع»... ان هذا المشهد هو الذي يدفع «خينغتي» الى التساؤل عما اذا لم يكن قد وجد اصلاً وعاش حياته كلها، لكي يعيش تلك الليلة الفاتنة. انها الأقدار! يهمس لنفسه مبتسماً راضياً.
يازوشي اينوي (1907 - 1991) كان واحداً من اكثر الكتاب شعبية في اليابان. وهو على رغم انه كان شديد الارتباط بثقافة بلاده، كانت عينه على الخارج ايضاً. ومن هنا قام بجولات خارجية عدة، ولا سيما في الصين التي كان واسع الاطلاع على ثقافاتها وتاريخها. وهو وضع من وحي جولاته الصينية كتاباً روائياً عن جنكيز خان «الذئب الازرق»، كما وضع كتباً عدة وصفت رحلاته الى الصين، ناهيك بأنه حين رحل عن عالمنا قبل قرابة نصف قرن كان يشتغل على رواية عن حياة كونفشيوس لم يكملها ابداً.
المصدر: الحياة