بين قوسين: تثبيط منظم..
تضعنا إحصائيات الجهات ذات الصلة، والتي تشير إلى أن نسبة المدمنين على شتى أنواع المخدرات في سورية لا تتجاوز 150 شخصاً بالمليون(!!!)، أمام أحد احتمالين: إما أن الجهات الرسمية عموماً، لا تعرف على الإطلاق ماذا يجري في البلاد على المستوى الاجتماعي- الاقتصادي نظراً للفارق الهائل دائماً بين الرقم المعلن ومعطيات الواقع، أو أن الألسنة والتقارير الناطقة باسمها مازالت تعتقد أن بإمكانها ستر العورات السافرة، الناشزة بشدة مؤخراً، بورقة صغيرة يابسة!
والحقيقة أن الجهات المعنية بمكافحة ظاهرة المخدرات، لا تطلع الجمهور على تعريفها للإدمان والمدمنين (بالرغم من كونه معرفاً عالمياً)، ولا على نتائج الحملات الموسمية للتوعية والمعالجة وملاحقة المروجين الصغار والمتعاطين، ربما ليتيح القائمون عليها لأنفسهم إمكانية الاستمرار في المناورة أمام الجميع، تحت وفوق، والبقاء في المناصب التي تبيض ذهباً على من يشغلها.
ولكن مما لاشك فيه أن تعاطي المخدرات في بلادنا قد انتشر بطريقة سرطانية في السنوات القليلة الماضية، ولم يعد يقتصر على الأنواع المعروفة تاريخياً، أو المستحدثة الوافدة قبل عقود، بل اتسع كماً ونوعاً بشكل هائل مع تزايد الضغوط الاقتصادية- الاجتماعية على شرائح واسعة من السوريين، وازدياد نسبة البطالة ومعدلات الفقر، وتراجع التعليم، وازدياد الفساد وخصوصاً الجمركي، وما رافق كل ذلك من تحرير للأسواق ولـ«الأفكار» سمح بدخول كميات كبيرة وأنواع كثيرة من المواد المخدرة، كأبشع استغلال لضعف الرقابة الصحية والتموينية والتربوية.
ولعل الشريحة الأكثر اندفاعاً نحو هذه الهاوية، هي شريحة الطلاب والمراهقين واليافعين، حيث مايزال هؤلاء يشكلون الهدف الأسهل بالنسبة للتجار والمروجين، حتى أصبحت كل مدرسة في أحزمة فقر المدن الكبرى وفي ضواحيها البائسة، تضم العشرات ممن يتعاطون الحبوب المخدرة بأنواعها، يدفعهم نحوها هشاشتهم النفسية وقلة وعيهم ويأسهم وتهميش الدولة والمجتمع لهم، ويغويهم السحر المزعوم لتأثيرها، ورخص ثمن معظمها، وسهولة الحصول عليها، وكثرة من يتعاطونها..
وإذا كانت هذه هي حال الطلاب، والكثير من العاطلين عن العمل فاقدي الأمل، فإن حال النخب و«المثقفين» ليست بأحسن، فقد أصبح من الرائج بشدة أن يدعو «مثقف» زميلاً له إلى سهرة «تحشيش»، وقد يستغرب « المثقف الحشاش» بشدة أن يرفض الآخر الدعوة، فيتعجب مستنكراً ومستهجناً: «عن جد ما بتحشش؟»..
حالياً، تشهد البلاد عامة، والعاصمة وأطرافها مدقعة الفقر خاصة، حملة واسعة ضد مروجي ومتعاطي المخدرات، وحسب شهود عيان في كل الأحياء والمناطق التي جرت فيها مداهمات وتوقيفات، واستناداً إلى بعض التصريحات الرسمية النادرة، فقد تم إلقاء القبض على المئات، وربما على الآلاف من الشبان، وعلى بعض المروجين والتجار... وينتظر الناس ويأملون أن يتم قريباً إعلان أسماء و«صفات» ومناصب وتهم كبار التجار والمستوردين والمروجين، وأن يحال الموقوفون جميعاً إلى القضاء، خصوصاً أن الحملة شابتها ملامح من «أجواء» ثمانينيات القرن الماضي.. كما أن الجميع يأمل أن تأخذ هذه الحملة طابع الديمومة، وليس النشاط الموسمي المنفعل، وأن يرافقها نشاط حقيقي في الخطط والبرامج الاستراتيجية الاقتصادية والخدمية والتعليمية الحكومية، للحد من الأسباب والدوافع الأساسية المؤدية لسهولة تفشي هذه الظاهرة، وهي الفقر والتهميش والجهل..
أخيراً، التقارير الرسمية مازالت تشير إلى أن نسبة 95 % من المدمنين من أرباب السوابق و«المنحرفين أخلاقياً».. وكأنما تصر أن تضع الطلاب والمراهقين والمعطلين عن العمل واليائسين والمهمشين في هذه الخانة، بينما الحقيقة أن «أصحاب السوابق» النيوليبرالية و«المنحرفين» منهجياً يقبعون في قلب القرار الاقتصادي- الاجتماعي رغم كره الناس لهم وشكهم بنواياهم، وهؤلاء بسياساتهم هم من يدفعون المجتمع نحو الهاوية سهواً أو جهلاً.. أو عمداً!.