«سلام مريم» تحفة بصوت فيروز وشعر عاصي وكاميرا ريما
عبده وازن عبده وازن

«سلام مريم» تحفة بصوت فيروز وشعر عاصي وكاميرا ريما

في الذكرى السابعة والعشرين لغياب الفنان عاصي الرحباني حملت ابنته ريما مفاجأة الى جمهوره وجمهور المطربة فيروز، وهي واقعاً اكثر من مفاجأة: قصيدة عنوانها «آفي ماريا» كان كتبها عاصي في الستينات وظلت مجهولة الى ان خرجت الى الضوء أخيراً بصوت فيروز المختمر بجمالياته، تؤديها كصلاة مصوّرة، موقّعة على موسيقى فرانز شوبرت الذي كان واحداً من الذين لحنوا صلاة «آفي ماريا».

إلا ان ريما بصفتها مخرجة الفيلم (لئلا أقول الفيديو كليب) الذي تطل فيه فيروز مؤدية هذه الترتيلة، شاءت ألا تكون الترتيلة «كلاسيكية» على غرار صلوات «الآفي ماريا» او «سلام مريم» بالعربية، فانطلقت من روح القصيدة التي كتبها عاصي لتصوغ اللحن متكئة على صوت فيروز وحده من دون مرافقة موسيقية ما خلا الكورس الذي جعلت أصواتهم خلفية للترتيلة. لا بيانو هنا ولا فيولون ولا آلة أخرى، وحده صوت فيروز يحلّق وينبسط ويتموّج بعذوبة عميقة وروحانية وحبور صوفي وصفاء.

إنها فيروز ترتل كما عودتنا في تراتيلها الدينية المتعددة الطقوس وتراتيلها الشعرية (شمس المساكين، نبع الينابيع)، لكنها هنا تؤدي ترتيلة مختلفة هي «آفي ماريا» التي توالت على أدائها مغنيات اوبرا عالميات انطلاقاً من موسيقى وضعها موسيقيون كبار مثل باخ وشارل غونود وسواهما، وكانت، على سبيل المثل، ماريا كالاس واحدة من المغنيات اللواتي ادين هذه الترتيلة كما كتب موسيقاها غونود، ببراعة ورهبة.

أول ما يميز ترتيلة فيروز الجديدة هو أن عاصي كتب القصيدة محمّلاً إياها روحاً شرقياً وبعداً شعرياً مغرقاً في الوجدانية الروحية، مخاطباً فيها مريم وكأنّ فيروز هي التي تخاطبها، فهو كتبها لترتلها مطربتنا، وهذا يبدو واضحاً عبر الكلمات والنفَس الروحي والمناجاة التي لا تليق إلا بصوت فيروز. وكم كانت فيروز أمينة على هذه القصيدة فرتلتها بأحساس ملؤه الصدق والعفوية والبراءة وكذلك الشفافية والجمال والبراعة في اللعب على معطيات هذا الصوت العظيم وعُربه وثناياه. إنها «الآفي ماريا» الفيروزية، المشبعة بسحر هذه الحنجرة التي تحوي ما تحوي من اسرار ومشاعر، من حنين وشوق. بل إنها «الآفي ماريا» باللغة العربية وبقصيدة لعاصي الرحباني: سلام/ يامطلع السلام / يا ملجأي على الأيام... يا براءة تلهو / في الصفاء والأناشيد/ يا غابة بألف عيد وعيد...». وفي ختام الترتيلة يبصر المشاهد كلماتها على الشاشة بخط عاصي.

أما الفيلم أو الفيديو كليب الذي أخرجته ريما الرحباني فبدا نابعاً من صميم الترتيلة الفيروزية ومن صميم الطبيعة التي لم تشأ ريما حضورها تزيينياً وخارجياً، بل هي جعلت المناظر جزءاً من العمل الفني ككل. الطبيعة تمتزج هنا بالترتيلة وكأنها تشارك فيروز في الغناء. طبيعة ذات بُعد انطباعي ورمزي: تستهل ريما الفيلم في لقطة تمثل الطريق او الدرب ثم تطل فيروز وهي تمشي عليها. إنها درب الصلاة وسط الأشجار وبين الحقول الخضراء ومروج السنابل وتحت سماء فيروزية الزرقة توشحها الغيوم. إنها الدرب التي تؤدي الى المطلق والماوراء. بدت الطبيعة كما صورتها كاميرا ريما اشبه بالسينوغرافيا الروحية وفي وسطها اطلت فيروز لا لتسرق الكاميرا وتحتل المشهد، بل لتكون انشودة في قلب المناظر الجميلة، لا سيما بثيابها الزرقاء المتناغمة مع زرقة السماء. وبعد ان تنتهي ترتيلة فيروز تستمر مشاهد الطبيعة على وقع الأداء الصوتي (الفوكاليز).

هذه تحية من أجمل ما يمكن ان يقدم الى عاصي الرحباني في ذكرى رحيله، ترتيلة من تأليفه أدتها فيروز ممزوجة بصوتها وموسيقى شوبرت التي غدت بمثابة الخيط الداخلي الذي ينتظم الترتيلة، أمام كاميرا ريما التي تولت إعداد العمل من الألف الى الياء. أما ترتيلة «آفي ماريا» كما رتلتها فيروز فهي مقطوعة بهية تضاف الى تراث شاعرة الصوت، وإلى التراث الغنائي والموسيقي العالمي.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الجمعة, 27 حزيران/يونيو 2014 18:47