حوار الأفكار في العمل الفني
كم من الأفكار تتولد في المساحة الصغيرة، أمام اللوحة أو التمثال أو أية قطعة فنية أخرى؟ المتلقون يأتون ليتوقفوا في هذه المساحة قليلاً أو طويلاً، ثم يمضون. البعض لا يأخذ ولا يعطي ويمضي. في حين يقف نفر قليل يحاجج العمل الفني ولا يمضي قبل أن يكون قد تبادل الأخذ والعطاء من الأفكار في هذه المحاججة.
إن هذه المحاججة هي الخميرة الأساسية للعملية النقدية. ويمكن القول إنّ النقد إنْ هو إلا محاججة للوصول إلى صيغة ثالثة هي تداخل بين أفكار الفنان وأفكار الناقد. إن الفنان يطرح في عمله الفني محصلة تمارينه في عكس رؤيته على القماشة أو الحجر أو البرونز، في حين يتعامل الناقد مع هذه المحصلة بمحصلة تمارينه في تثقيف أفكاره النظرية لقراءة أي عمل فني. من هنا فإن المساحة الصغيرة أمام اللوحة أو التمثال هي حلبة لحوار الأفكار وهذه المساحة إنما تحتفي بالأفكار المثقفة الخبيرة احتفاءها بالعمل الفني ذاته .
ولكن هل النقد هو (الحُكم) على العمل الفني ، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف التربوي الأمريكي (جون ديوي 1859 ـ 1952) ؟ إنّ (الحُكم) إنْ هو إلا موقف قضائي، وهذا الموقف لا يأتي بغير أحد أثنين: إما الإدانة وإما التبرئة. ولكننا في هذه الحالة إنما نضع العمل الفني في موقع الاتهام.. فهل هو متهم فعلاً ؟ وبماذا؟
ليس من الصعب الإدراك بأن المتهم عندما يقوم بفعل مدان فإنه يكون قد تجاوز في ذهنه نتيجة الحكم الذي سيصدر لاحقاً، وإلا لـَما أقدم على (الفعل). من هنا فإننا إذا ما أردنا أن نلوي ماهية النقد باتجاه فكرة (جون ديوي) فإن الفنان حين أنجز عمله الفني فإنه يكون قد تجاوز مسبقاً (حُكم) الناقد عليه. ولقد ظلت (التهمة) الموجهة إلى الفنان الحديث، لفترة طويلة، هي أنه يعمد إلى تهشيم الواقع ومن ثم إعادة صياغته.. ويلاحظ أن (الحُكم) في السابق كان متساهلاً مع الفنان، بسبب واقعيته الشديدة. فيما كانت الملاحظات تطول استخدامات الألوان أو التشريح أو المنظور. ولكن أصابع الاتهام صارت ترتفع بشدة ضد الفنانين ابتداء من عهد الانطباعيين .. حتى أن (المحافظين) لم يعودوا يرون في الفن الحديث فناً، اليوم .
غير أن (النقد ـ الحُكم) قد وجد نفسه متغيراً تبعاً لمتغيرات (الفنان ـ المتهم) نفسه، وتغير طبيعة (أفعاله) التي صار على (الحُكم) أن يرتقي بنفسه إلى مستواها، وهذه واحدة من أهم مميزات الفن عن بقية النشاطات الأخرى: المتهم يقود الحكم. والذي من مميزاته أيضاً أنه يفسح لنا المجال لطروحات تحمل بعض الطرافة، كهذه، حيث بالإمكان الاسترسال في عشرات الصفحات لكتابة كلام طريف في الفن .
ومن المعروف أن الفكرة النقدية التي تتحاور مع العمل الفني تأتي لاحقة له، وعلى الرغم من أن الناقد يتقدم للحوار مستنداً إلى إرثه الثقافي والى نتائج حواره الدائم مع الأعمال الفنية وإلى عينه التي تمرنت كثيراً على مشاهدة الأعمال مما رفع درجة حساسيتها، على الرغم من ذلك إلا أنه من الممكن القول إن ثمة ناقداً خفياً يحمله كل فنان في داخله. وهذا الناقد هو الذي يقود العملية الفنية لدى الفنان، ودوره سابق على العمل الفني.
إذن نحن أمام ناقدين: ناقد في داخل الفنان، وآخر أمامه. سابق، وآخر لاحق. إن الأول يخطط للعمل الفني ويجنب الفنان الخطأ ويقوده، بينما يشير الثاني إلى مواضع الضعف والقوة بعد فوات الأوان ويقدم مقترحاته، غير أنه يحدث أن يكون الناقد الداخلي أكثر حكمة ودراية ودَرَبة وحساسية من الناقد الخارجي، وهذا الأمر هو الذي يجعل النقد المكتوب يلاحق أعمال فنان يقوده ناقد داخلي حكيم، وهو ذاته الأمر الذي يجعل بعض الأعمال أعمالاً عظيمة تشكل حافزاً متجدداً للكتابات النقدية. وقد حدث في تاريخ الفن الحديث أن عدداً من الفنانين الكبار قد تركوا لدواخلهم الإعلان عن أفكار نقدية أضاءت تجاربهم الفنية خاصةً والفنون عموماً، بما هو أكثر فصاحة من نقد المحترفين، كما فعل (بيكاسو) و(ماتيس) و(كاندنسكي) و(ماكس إرنست) و(بول كليه) والفنان العراقي الكبير (شاكر حسن آل سعيد) ومواطنه (محمود صبري).. وسواهم. وإذا لم يتسن َ لفنانين ممتازين آخرين ممارسة هذه التجربة، فذلك ربما يعود إلى افتقارهم للقدرة على تنظيم أفكارهم كتابةً، أي إهمال التمرين على الأسلوب الأدبي في التعبير عن الأفكار في الفن وعن أسئلته: لماذا؟ وماذا؟ ولمن؟ وكيف؟ ومتى؟ .
لكن ينبغي الانتباه إلى أن التمرين على الأسلوب الأدبي لصياغة الأفكار في الفن يجب ألاّ يكون وسيلة للانجرار وراء الكتابة الأدبية في الموضوع الفني. هذه الكتابة التي غالبا ما نطلق عليها تسمية (الكتابة الإنشائية) هي ضرب من كتابة تشكل خيانة للجهتين: جهة الأدب، وجهة الفن. إنّ النقد إنْ هو إلاّ محاججة وحوار عقلي، في حين أن الكتابة الإنشائية انحياز عاطفي، لا يخدم الأدب نفسه ولا الفن أيضاً وهي تكرس اتجاهاً سيئاً وضع أسسه نفر من الأدباء الفاشلين وبعض الصحفيين الذي يكتبون عن المعارض الفنية بذات الطريقة التي يكتبون بها عن اي شي آخر بعيد عن الفن .
■ مجتزأ من كتاب
«سيرة الجمال» الصادر مؤخراً عن دار «تموز».