الزمن الثوري والصدمات
يفتح السوريون عيونهم يوماً بعد آخر على صدمة جديدة، أو خيبة جديدة كما يحلو للبعض تسميتها، قرارات عجيبة، تمس صميم حياتهم اليومية المباشرة، لم يأخذ أحد رأيهم بها، ومع ذلك يأملون أن يكون بها شيء لمصلحتهم بعد تجربة مريرة وطويلة، لكنها في الواقع ليست كذلك.
يتوق الإنسان بطبيعته ككائن إلى الشعور بالاستقرار والأمان النفسي. ويشتد توقه هذا أكثر كلما تعاظم حجم الكارثة التي يمر بها، حيث يمكن للأمور السير باتجاهين، فالكارثة ليست مجرد انهيار ولا تحمل في عمقها الشعور بالمعاناة فقط، بل فيها نوع من كشف الحقائق وتلمسها وتحمل دعوة للعبور والتجاوز، وفتح الأفق للتفكير والإبداع في الحلول الضامنة للاستقرار والشعور بالأمان النفسي.
تجريب المجرب
ثمة من يحاول أن يثبط الناس وقدرتهم على الفعل، فما زالت السلطات المتعاقبة في سورية، القديمة منها والجديدة تتشارك في ممارسات سياسية واقتصادية متشابهة، وتطبق على السوريين وصفات اختبروها سابقاً، وصفات لم تنتج سوى الخراب، ولم تخلف سوى الخيبة. فبدلاً من قراءة الوقائع بعين مفتوحة والذهاب إلى حلول حقيقية لبناء اقتصاد منتج، يجري تسويق أفكار ومشاريع السياحة والاستثمار والخصخصة، ووو... كل ما جربته السلطات السابقة وأثبت فشلاً ذريعاً أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه من الخراب. لتنهال المصائب على رؤوس الناس وآخرها كان موضوع الكهرباء وما سببه من صدمة خاصة بعد أن ضخم الفضاء الإعلامي آمال الناس بتحسن الأوضاع وعلى رأسها الكهرباء.
تجربة سجن ستانفورد
في عام 1971 قامت البحرية الأمريكية بتمويل دراسة لفهم الصراعات في نظام السجن عندها. تحت إشراف فريق من الباحثين يقوده فيليب زيمباردو من جامعة ستانفورد. وقد قام بأداء دور الحراس والسجناء متطوعون وذلك في بناء يحاكي السجن تماماً. تم الإعلان عن التجربة في الجرائد للحصول على مشاركين مقابل 15دولاراً كل يوم للمشاركة في ((محاكاة لسجن)) مدتها أسبوعان. استجاب للإعلان 70 شخصاً، اختار زيمباردو منهم 24 كانوا الأكثر ملائمة من حيث الاستقرار النفسي والصحة البدنية. قسمت المجموعة عشوائياً إلى اثنتين متساويتين مساجين وحراس، انتهج المشاركون فيها السلوك المفترض لهم وقاموا بتلبس الأدوار التي كانوا يلعبونها وأظهروا سلوكاً مختلفاً عن شخصياتهم الفعلية اعتماداً على الدور الذي كُلفوا به (حارس سجن أو سجين). لدرجة فقدان حدود السيطرة عليهم مما أدى إلى التدخل وإيقاف التجربة باكراً.
تعتبر هذه التجربة عرضاً لأنماط الطاعة والانصياع التي يبديها الناس عندما يتعرضون لنهج ونظام معين، تم توظيف هذا الاختبار لتوضيح ودعم فكرة ((التنسيب المكاني)) هي مفهوم في علم الاجتماع والنفس يحاول إثبات فكرة أن سلوك الأفراد يتأثر بشكل كبير بالبيئة المحيطة والظروف الواقعية، أو بعبارة أخرى وضع الناس تحت ظروف ومواقف محددة تدفعهم إلى التصرف بطرق معينة، حتى لو كانت تتعارض مع طبيعتهم الأساسية. وبالتالي يمكن الاستفادة من نتائج هذه التجارب لتوضيح أنماط الطاعة والامتثال للسلطة.
الاستقرار والرضا الاجتماعي
ثمة علاقة بين الاستقرار والرضا الاجتماعي للناس، فالاستقرار بأنواعه كافة (السياسي والاقتصادي والنفسي...إلخ) هو نتيجـة مركبـة لرضا المواطنين عن النظام السياسي، أيّاً كان، وقدرته على تلبية احتياجاتهم الأساسية والروحية والرمزية. لكن هذه العلاقة ليست خطية، بل تخضع لعدة عوامل قد تجعل الاستقرار شكلياً أو هشاً رغم وجود مؤشرات رضا ظاهرية. والرضا ليس مجرد «سكوت» الناس، بل قبولهم النشط أو السلبي للنظام السياسي، وغالباً ما يكون نتيجة عن عدالة اقتصادية وتوزيع عادل للموارد تقلص التفاوت الطبقي إلى أقصى حد وتحارب الفساد والفقر والجوع... إلخ، ومشاركة سياسية فعلية للناس تمكنهم من إقرار ما يريدون لبلادهم أن تكون عليه، وتعزز إحساس المواطنة، وترفع قدراتهم وإمكاناتهم للمشاركة في البناء وإبداع الحلول.
في سورية حيث الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، ما زالت المطالب التي رفعها الناس في وجه السلطة السابقة قائمة لم تجرِ تلبيتها، وما زالت السلطات تلتفّ عليها ولا تريد مواجهتها
وما زالت هناك إمكانية وأساس لبداية حقيقية لبناء الدولة وتحقيق مطالب الغالبية العظمى من السوريين في الأمان السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي في بلاد حرة تحكمها سلطة القانون والمواطنة المتساوية التي تعامل السوريين بصفتهم مواطنين لا أبناء طوائف وإثنيات.
بين اليأس والأمل
يبحث الناس عن خيوط الأمل في كل جديد، يحاولون تخفيف وطأة الألم والخيبات المتكررة، يحاولون صناعة أفراحهم الصغيرة لكنّهم في الوقت ذاته يحملون خوفاً عميقاً من الخذلان، والمرء، بعد تجربة الخذلان، لا يعود نفسه السابقة، يكشف هذا الخوف عن أزمة، ومع غياب الوعي والأمل، قد تتحوّل التناقضات التي يعاني منها إلى سبب في «التبلّد الدفاعيّ»، يلجأ الإنسان إلى اللامبالاة فقط، ليستمرّ في العيش، مفتقراً إلى رؤية واضحة ليتحول إلى «تابع» لا قرار له.
في يوم السقوط، كما يطلق عليه، عاش السوريون حالة من الصدمة، وتتالت الصدمات واحدة بعد الأخرى، من صيدنايا إلى العدوان الصهيوني المتكرر وحل الجيش وتسريح الموظفين وارتفاع الأسعار وو...إلخ. وكان آخرها «الصدمة الكهربائية» كما أطلق عليها السوريون في وسائل التواصل الاجتماعي. يصبح الألم أشد كثافةً حين يأتي مع آمال مرتفعة، ارتفعت آمال السوريين كثيراً في بداية العام، ثم عاودت الهبوط، صدمة بعد الأخرى. وحل محلها شعور بالخيبة والحذر. بين الأمل كإحدى القوى الداخلية الدافعة لتشكيل الهوية والتشاؤم، الذي يضعف القدرة على إيجاد حلول فعالة للمشكلات، تتناوب على السوريين مشاعر متناقضة من أقصى السلبية إلى أقصى الايجابية، كما في بداية العام، وبالعكس، كما يحدث اليوم.
الزمن الثوري
بالعودة إلى تجربة ستانفورد ومحاولات التجريب في اختبار الطاعة والامتثال والانصياع لما تريده السلطة، تنسى هذه التجارب وتتناسى ذلك الإرث المتجذر في وعي الناس الجماعي والذي يرفض الخضوع والاستسلام، خاصة في ظل ما يمكن تسميته «بالزمن الثوري» والتغيرات العاصفة في العالم أجمع وتحركات الشعوب ضد ظُلّامها وفي سبيل حياة أفضل، الزمن الثوري الذي لا يزال العالم في بدايته، في تلك المساحة المفعمة بالعمل الجاد والأمل الحقيقي الواقعي المحكوم بإدراك أن الأخطاء والتراجعات، كما المنجزات، أمرٌ حتمي، وهي جزء من جدلية الواقع نفسه وأن النتيجة النهائية، وشكل لحظة النهاية، رهنٌ بمن يتعلّم من أخطائه بشكل أسرع وأفضل، ويراكم منجزاته هو ولا يكرر التجارب الفاشلة للآخرين. يدرك السوريون تماماً أنهم في الزمن الثوري هذا، وخيارهم الوحيد غير الممكن سواه، هو استكمال ما بدؤوه والانخراط في النشاط السياسي بفاعلية عالية، فالسوري محكوم بالأمل، وإلا لا معنى لوجوده سجيناً أو سجاناً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250