الحرية والاقتصاد: رؤية نقدية للمنظومة الرأسمالية وسبل الخلاص
بول سويزي بول سويزي

الحرية والاقتصاد: رؤية نقدية للمنظومة الرأسمالية وسبل الخلاص

تستهل هذه الرؤية النقدية باستعارة قوية: إنها سفينة الدولة الأمريكية، يقودها قبطان مجنون، تتجه بلا هوادة نحو حطام مؤكد. في مثل هذا السيناريو، تتبدد كل المفاهيم التقليدية للحرية التي تركز على تنظيم العلاقات بين الرّكاب لتقليل الإكراه المتبادل، ليبرز المعنى الجوهري الوحيد للحرية في هذا السياق المصيري: القدرة الجماعية على انتزاع زمام القيادة، والسيطرة على السفينة، وتحويل مسارها بعيداً عن الكارثة نحو برّ الأمان. بهذه الاستعارة التصويرية، يضع الكاتب أسس طرحه: إن المجتمع الأمريكي، وغيره من المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، يعيش لحظة مصيرية مماثلة، حيث لم يعد الخيار حول تحسين شروط الحياة داخل النظام القائم، بل حول تغيير النظام نفسه لتجنب المصير المحتوم.

 إعداد قاسيون


مقدمة: سفينة على شفا الهاوية
جذور الأزمة: النظام الإمبريالي وتصدعاته


تعود جذور هذا المسار الكارثي إلى البنية الاقتصادية العالمية التي تشكلت خلال القرون الخمسة الماضية. فابتداءً من عصر الاكتشافات الجغرافية، أقامت القوى الأوروبية نظاماً عالمياً للاستغلال، قسّم العالم إلى «مراكز رئيسة» استعمارية قليلة تتطور، و»مستعمرات» وشبه مستعمرات كثيرة تتخلف. وقد اتسمت ديناميكية هذا النظام بالصراع الدموي والمستمر بين هذه المراكز الاستعمارية على مركز «القوة الأولى»، وهو صراع بلغ ذروته في حربين عالميتين خرجت منهما الولايات المتحدة كقوة مسيطرة.
غير أن ضحايا هذا النظام، شعوب المستعمرات، لم يكلوا عن المقاومة. وقد أتاحت الحروب بين القوى الاستعمارية فرصاً تاريخية للشعوب المستعبدة. فبعد الحرب العالمية الأولى، نجحت روسيا في الخروج من المنظومة الإمبريالية، وشكلت نواة نظام اجتماعي واقتصادي جديد. وبعد الحرب العالمية الثانية، انضمت دول عديدة إلى هذا المسار، مشكلة نظاماً دولياً بديلاً يقوم على أسس مختلفة، ويتحرر تدريجياً من استغلال الطبقات والأمم. هذا التحول أطلق موجة مد تاريخية جارفة من التحرر بين الشعوب المستغَلة، التي أدركت أخيراً إمكانية تحقيق حلمها في التحرر والكرامة الإنسانية والعمل من أجل الذات.


المأزق الأمريكي: قيادة نظام منهار


هنا يكمن لبّ المأزق الأمريكي: فبوصفها القائدة الرئيسية والراعية للنظام العالمي القديم، والمستفيد الأكبر من استمراريته، تكرس الولايات المتحدة طاقاتها الهائلة لمحاولة كبح هذا المد التحرري العالمي، والإبقاء على نظام أصبح بغيضاً في أعين الغالبية العظمى من البشر. يؤكد التحليل أن الاستمرار في هذا المسار لا يحمل إلا نتيجتين محتملتين: إما الدمار الشامل في حرب نووية طاحنة، أو الإرهاق والتآكل التدريجي في حرب ثورية عالمية ممتدة، تظهر بذورها في فيتنام وغيرها، وقد تصل إلى داخل حدود الولايات المتحدة نفسها، حيث تعيش أقلية تعاني من القمع الداخلي.
غير أن هناك بديلاً وحيداً للخلاص: وهو أن تختار الولايات المتحدة بنفسها طريق الهروب من نظام الاستغلال والامتياز القديم، والانضمام إلى الركب البشري في بناء النظام الدولي الجديد القائم على قيم الملكية الاجتماعية، والتخطيط الاقتصادي العقلاني، والإنتاج لتلبية الحاجات الإنسانية الحقيقية. فقط عبر هذا التحول الجذري يمكن للشعب الأمريكي أن ينتزع حريته الحقيقية، التي هي في جوهرها حرية جماعية للتحكم في المصير المشترك، بدلاً من الانجراف نحو الهاوية تحت وطأة قوى عمياء.


الحرية الزائفة: تناقضات المجتمع الرأسمالي المتقدم


يذهب النقد إلى ما هو أبعد من الأزمة الخارجية، ليغوص في التناقضات الداخلية للمجتمع الأمريكي. فبرغم قدرة النظام على توفير مستوى معيشي مادي مرتفع لقطاعات واسعة، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في بناء مجتمع عقلاني أو سعيد. ففي ذروة تطوره التكنولوجي، يعاني الاقتصاد من بطالة هيكلية مزمنة تعطل طاقات بشرية وإنتاجية هائلة، بينما يعيش جزء كبير من السكان في فقر مهين وسط وفرة غير مسبوقة. والأكثر إيلاماً، أن «نجاحات» الاقتصاد الأمريكي في العقود الماضية اعتمدت اعتماداً كبيراً على الإنفاق الحربي الهائل، الذي لم يعد هدفه سوى الدفاع عن نظام يرفضه العالم. كما أن جهازاً ضخماً للإسراف والهدر، تخلقه الشركات العملاقة المسيطرة، يشوه الذوق العام ويجبر قطاعات متزايدة من القوى العاملة على الانخراط في وظائف تخلو من الكرامة، أو المعنى، أو الفائدة الاجتماعية. إنه مجتمع، كما وصفه أحد النقاد، يفتقر إلى العمل الحقيقي، والخطاب الصادق، والفرصة لكي يكون المرء مفيداً، مجتمع يُشوه المواهب ويخنق الإبداع ويُفقد الحياة معناها.
في ظل هذا النظام، يصبح كل حديث عن الحرية مجرد وهم. فالأفراد فيه ليسوا أحراراً، بل هم مجرد أدوات في قبضة قوى لا عقلانية تتحكم بمصيرهم. لا يمكن للحرية الحقيقية أن تتحقق إلا من خلال تغيير جذري يحرر المجتمع من تناقضات الملكية الخاصة، التي تطلق، حسب تعبير أحد الفلاسفة، «أعنف وأحقر وأخبث مشاعر الصدر البشري»، ليحل محلها العقل والمنطق في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق الصالح العام.


ملامح الحرية في النظام البديل: إجابات على إشكاليات مألوفة


يقر التحليل، أن الانتقال إلى نظام جماعي، والوجود داخله، يطرحان أسئلة حقيقية حول مفهوم الحرية. أسئلة الانتقال مرتبطة بمقاومة القوى المهيمنة للتغيير الجذري، وهي تختلف بحسب الظروف. أما الأسئلة الهيكلية فهي في جوهرها إشكاليات مألوفة، ويمكن معالجتها بناءً على تجارب المجتمعات الاشتراكية القائمة وإمكانيات التطور المستقبلية:
حرية اختيار المستهلك: يمكن الحفاظ على حرية الاختيار ضمن إطار الدخل والأسعار، مع فتح النقاش حول كيفية تحديد تشكيلة السلع المعروضة، هل بناءً على تفضيلات المستهلكين أم المخططين، أو عبر صيغ جديدة.
حرية اختيار المهنة: يوسع النظام الجماعي نطاق هذه الحرية من خلال توفير التعليم الجيد للجميع، ويقلل من عنصر الصدفة عبر التخطيط طويل المدى الذي يوضح الاحتياجات المستقبلية.
حرية تغيير الوظيفة: تفنيد الادعاء بأن الدولة تصبح صاحب العمل الوحيد، فالمؤسسات المستقلة كثيرة، والتجارب السابقة تشير إلى وجود حركة عمالية مرتفعة بين الوظائف.
الحرية داخل مكان العمل: تشكل هذه قضية محورية، وترتبط بتطورات الأتمتة والتعليم، وطبيعة العلاقة بين الإدارة والعمال، ويتوقع أن تحظى باهتمامٍ متزايدٍ في مجتمع يضع الإنسان في مركز اهتمامه.


خاتمة: تحولات تاريخية وأمل مستقبلي


يختم التحليل بتشخيص واقعي: فقيادة العالم آخذة في الانتقال من الحضارة الغربية البيضاء إلى حضارة جديدة، شرقية وغير بيضاء في غالبيتها. ورغم أن الولايات المتحدة تبدو غير مستعدة لقيادة مسيرة التحرر الجماعي، بل تواصل انزلاقها نحو العزلة والرفض العالمي، إلا أن الأمل يبقى في أن تنجح الحضارة الإنسانية الناشئة في تحقيق الإمكانات الكامنة للجنس البشري، التي أخفقت حضارتنا الحالية في تحقيقها. فالحرية الحقيقية ليست في التمسك بنظامٍ بالٍ، بل في الشجاعة لبناء عالم جديد.

من مجلة مونثلي ريفيو

معلومات إضافية

العدد رقم:
1250
آخر تعديل على الأحد, 02 تشرين2/نوفمبر 2025 21:14