ذاكرتنا والهوية الوطنية!
في مقارنة صغيرة بين قرارات أصحاب القرار في السلطة الحالية، وما كان يحدث سابقاً قبل السقوط، ثمة تشابه واضح من جهة أن القرارات تصدر دون العودة إلى رأي الشعب السوري أو استفتائه حتى بقضايا مصيرية تشكل أساساً لما ستكون عليه بنية وشكل الدولة السورية في حاضرها ومستقبلها، وبنية هويتها الوطنية أيضاً.
فلقد اشتعل سجال حاد في الأيام القليلة الماضية في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه المرة، حول المرسوم الرئاسي الذي عدّل قائمة الأعياد الرسمية والعطلات في الدولة، ليس بسبب إضافة مناسبتين، هما الثامن من كانون الأول، وتسميته «عيد التحرير»، والثامن عشر من آذار وتسميته عيد الثورة. بل بسبب إلغاء عيدين لهما مكانة اعتبارية ورمزية هامة في وجدان السوريين. السادس من تشرين الأول، ذكرى حرب تشرين 1973، والسادس من أيار، عيد الشهداء الذي جرى فيه إعدام مجموعة من الرجال والشباب السوريين واللبنانيين المناضلين للتحرّر من السلطنة العثمانية في هذا اليوم من العام 1916.
شارك في صناعة المناسبتين الشعب السوري بكل مكوّناته، ولا علاقة لهما بنظام سياسي، فحرب تشرين تحظى بمكانة هامة في وجدان الشعب العربي عموماً، وليس في سورية وحدها، بعد الهزيمة التي أصابت هذا الشعب في صميم قلبه وكرامته عام 1967. أثارت هذه المسألة نقاشاً هاماً بين الناس، وأدت إلى طرح تساؤلات جدية حول الموضوع فبينما يتفنن الإسرائيلي ومن خلفه الحركة الصهيونية، في استخدام الرموز والإشارات في معركة الهيمنة على الوعي في المنطقة، يقوم برفع العلم «الإسرائيلي» في أحد توغلاته المستمرة في الجنوب السوري في ساحة دوار «العلم» تحديداً هناك حيث رفع العلم السوري بعد تحرير القنيطرة في حرب تشرين وأخذ اسمه من هذه الواقعة. ويجري تصوير جنوده وهم ينشدون النشيد «الاسرائيلي وأناشيد دينية» في ذات المكان، وينشر الفيديو بشكل واسع ومقصود، تصدر قرارات تحيل إلى التبرؤ من مرحلة هامة من تاريخ سورية الحديث بحجة التبرؤ ممّا خلفه النظام السابق فتلغى مناسبات وأعياد بجرة قلم!
والأهم من ذلك، حسب البعض، دون الرجوع إلى الشعب السوري وأخذ رأيه بعين الاعتبار واستفتائه في مسألة ليست شكلية، فمثل هذه المناسبات هي جزء من الرموز المتعلقة بالهوية الوطنية، لكونها مرتبطة بالعمليات التاريخية الرئيسية التي تشكل ركيزة هامة وأساسية في ذاكرة الشعوب، وتعد من الرموز المساهمة في رسم الهوية الوطنية تحديداً، والتي لا يجوز الخلط بينها وبين الهوية السياسية التي غالباً ما يفرضها النظام الحاكم ويتدخل في تحديد خطوطها الرئيسة.
من يحق له ذلك؟
سورية ليست دولة ناشئة، وليست جغرافيا فحسب، وشعبها ليس وليد أمس، بل هي تاريخ، لذلك يطرح السؤال نفسه: من يملك هذا التاريخ؟ ومن يحق له تغيير الوقائع التاريخية «المتحققة» عبر الزمن، في بلد نشأت على أرضه بواكير الحضارات الإنسانية، وتاريخه حافل بالممالك والشعوب والحروب والغزوات والانتصارات والهزائم، والديانات والثقافات وكل ما ينجم عن نشاط المجموعات البشرية.
ليس مجرد عتب بل مطالبة بالحقوق
بالعودة إلى المرسوم إياه، فقد أُخذ عليه أيضاً عدم اعترافه بأعياد رمزية أخرى لمكونات سورية، تنتظر إنصافها والاعتراف بحقوقها الثقافية التي انكرتها عليها السلطة السابقة، مثل عيد النوروز وأكيتو...إلخ.
تعكس الهوية الوطنية رؤية الناس لذواتهم، وما راكموه عبر تاريخهم، وهي تتطور باستمرار وتتشكل كل يوم، وتضم تحت جلدتها هويات فرعية متعددة، شاركت كلها في بناء الوطن وصناعة تاريخه.
ففي مجتمع متعدد ومتنوع الثقافات مثل سورية تغتني الهويات بتفاعلها مع بعضها وتعزز متانة الهوية الوطنية، وهنا تلعب السياسة أدواراً مختلفة حسب طريقة تدخلها فإما أن تذهب باتجاه ترسيخ مفهوم المواطنة المحددة بدستور تساهم كل شرائح الشعب في صياغته. وإما أن تذهب إلى زعزعة الترابط بين هويات وفئات مختلفة، وتهميش أو منح مزايا لأفراد أو مجموعات معينة.
أسئلة لا بد منها
ثمة جانب يمكن تأمله في التاريخ، تتيحه تلك المسافة التي تفصل الناس عن ماضيهم، وتسمح لهم بالنظر إلى أنفسهم، بالنظر إلى «نحن» التي تمثلهم. وهي مسافة لا تقاس بالزمن فقط، بل بكل ما طرأ من متغيّرات خلاله، وتطرح أسئلة كثيرة وهامة، ما الذي رحل إلى غير ما رجعة، وما الذي بقي ونحمله فينا كجزء من هويتنا؟ ما الذي اجتهد به من سبقونا، وما أصابوا فيه وأخطأوا؟ والأهم ما الذي سنجتهد به تلبيةً لمتطلبات بلدنا وناسنا في العصر الحالي وما سنورثه مستقبلاً للأجيال اللاحقة؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247