«دراسات كنفاني...» وموجة جديدة!
فاطمة الخلف فاطمة الخلف

«دراسات كنفاني...» وموجة جديدة!

أوقدت مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة وصموده الأسطوري في وجه حرب الإبادة الوحشية جذوة من الأمل بالانتصار على الصهيونية العالمية وداعميها وشكلت بداية لمعركة فكرية مضادّة، إذ يبحث جيل جديد اليوم عن إجابات حول القضية الفلسطينية وأحداثها التاريخية ومساراتها وبقية تفاصيلها.

قاد البحث كثيرين للعودة إلى أعمال غسان كنفاني، المعروف كروائي، وأديب وفنان، وكمناضل ماركسي استُشهد على يد جهاز الموساد الإسرائيلي في بيروت في 8 تموز 1972 عن ستة وثلاثين عاماً.

القول والفعل

تسعى بعض القوى اليوم، إلى تقليص الدور الذي لعبه إرث كنفاني، متعدد الجوانب والأبعاد، خاصة بعد أن أثبتت الأحداث والوقائع صحة تشخيصه لضرورات الكفاح المسلح ودور الطليعة الواعية وتشريحه لآلية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وذلك لتشويش المعنى الكامن والعميق فيه، وتخفيف حدّته، وتحويله إلى خطاب مدجَّن، عبر تحييد الرسالة التحريرية التي كان ينقلها قولاً وفعلاً.

يشير كنفاني إلى مسارين أساسيين ساهما في تكوينه، الأول: مشاهدته ومعايشته المباشرة لتجربة اللاجئين الفلسطينيين، والثاني انخراطه المباشر في السياسة في منتصف الخمسينيات. فمعايشة شخصيات واقعية مثل «أم سعد» كانت «مدارس» لفهم العالم؛ حسب ما أكده، والانخراط المباشر في النشاط عبر «حركة القوميين العرب»، ثم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ذات التوجّه الماركسي، والعمل المباشر في منشورات الحركة، إذ أنتج قصصاً ذات وعي سياسي إلى جانب أعماله الروائية، واتّسع حجم إنتاجه الصحافي والسياسي مقارنة بأدبه التخيّلي. فمثلاً، بلغ تقريره عن رحلة إلى الصين الشيوعية عام 1965 كمراسل لصحيفة «المحرر» وكمحرر لملحق «فلسطين» 150 صفحة، بينما لم يتجاوز إنتاجه القصصي في العام نفسه أربع قصص قصيرة.

غالباً ما يجري عزل أدب كنفاني عن أفكاره النظرية، فيتم دراسة روايات كنفاني في أقسام الأدب، بينما تُدرس كتاباته السياسية (مثل «ثورة 1936-1939 في فلسطين» أو تحليلاته للصهيونية) في أقسام العلوم السياسية، ونادراً ما يلتقي الاثنان. بينما كان كنفاني منظّراً متكاملاً. ويمثل أدبه التطبيق الجمالي لنظريته السياسية. اتضح احتضانه للاشتراكية العلمية، وبرز كمنظّر ماركسي وركيزة تنظيمية بشكل خاص في إطار الجبهة الشعبية وكتب أو أسهم في كتيبات مفصلية مثل «الإستراتيجية السياسية والتنظيمية» (1969) و«المقاومة ومعضلاتها» (1970)، وتدخّل بشكل مباشر في النقاشات الداخلية، كما في مؤتمر الجبهة عام 1972 في مخيم البدّاوي في لبنان.

«مثقف مستقل» وفقط!

كثيراً ما يُقدَّم كنفاني كأديب إنساني، أو بأحسن الأحوال «كمثقف فلسطيني» مستقل، أو «كاتب روائي» فقط ليصير مقبولاً في دوائر ثقافية غربية أو عربية ترفض خطابه السياسي الأصلي. ليتم «استيعابه» في النظام الثقافي السائد والذي يروج فيه أن «الفعل الثقافي منفصل عن الفعل السياسي المنظم»، فيجري طمس هويته السياسية والتنظيمية وتناسي أو تهميش حقيقة أنه كان الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد أبرز منظريها! وأن أدبه ليس سوى جزء لا يتجزأ من مشروعه السياسي والتنظيمي، وسلاحاً في معركة التحرير، فقصصه ورواياته كانت تُقرأ في المعسكرات وتُلهم المقاتلين.

مساهمات نظرية

ثمة مساهمات نظرية هامة لكنفاني، منها صياغته لمصطلح «أدب المقاومة» لوصف الجهد الجماعي الفلسطيني في مواجهة كيان عنصري قاهر؛ وفهمه للصهيونية كمستعمرة متقدمة للإمبريالية الغربية في المنطقة ورؤيته للصراع ضد الإمبريالية كمفتاح لهزيمة الاستعمار الصهيوني؛ وقراءته المادية لثورة 1936–1939 واستخلاصه دروساً أساسية للحركات المقبلة؛ ونقده اللاذع للحكومات العربية بعد هزيمة 1967، بما في ذلك بعض الشرائح الفلسطينية الساعية إلى التسوية مع الاحتلال؛ إضافة إلى استلهامه وتبنّيه مدرسة حرب العصابات كما طُبّقت في فيتنام؛ وتأسيسه لمبدأ المقاطعة المبدئية للكيان الصهيوني وحلفائه.

موجة الدراسات الأكاديمية الجديدة

عادت أعمال كنفاني إلى الظهور عالمياً بعد تجاهل وتغييب طويل، إثر مقابلة لافتة عام 2017 مع الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون، أكد فيها بوضوح مبادئ حق تقرير المصير الفلسطيني. الافتراضات التي روّجت لوجود «صراع متكافئ» يمكن أن يُحلّ «بالحوار» انهارت تماماً، فيما بات الحق في المقاومة «حتى آخر قطرة دم» أمراً مقدساً. ثم ظهرت ترجمات جديدة إلى الإنكليزية، من بينها: «عن الأدب الصهيوني» (دار إب، 2022)، و «ثورة 1936–1939 في فلسطين» (دار 1804، 2023)، و«مجموعة الكتابات السياسية المختارة» (بلوتو، 2024).

جذبت هذه الكتب جمهوراً واسعاً. وبرز حقل أكاديمي جديد يُسمّى «دراسات كنفاني» المصطلح الذي صاغه محرّرو مجلة «بلوتو» خاصة بعد انتشار مقاطع كنفاني المصوّرة على الإنترنت في سياق الصراع التاريخي بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني المتوحش. وجد هذا الحقل أتباعاً جدداً. لكن، في الوقت نفسه ثمة قوى سياسية وأكاديمية تسعى إلى إساءة استخدام خطاب كنفاني وتلويث جوهر إرثه.

تنوّعت هذه الممارسات، وكان من بينها تحليلات أكاديمية تشكّك بلا سند في التزامه بالماركسية ــ اللينينية والكفاح المسلح. هذه المقاربات تركز تقريباً بشكل كامل على أعماله الروائية، وتتعمّد تهميش كتاباته السياسية.

مطالب المتواطئين

تضم الصناعة الأكاديمية القائمة على التشويش عدداً من المشتغلين النشطين، وربما يفسّر ذلك جزئياً الصمت الطويل الذي دام أكثر من نصف قرن تجاه كتابات الشهيد كنفاني السياسية في الغرب. مثلاً، في جامعة «كِنت»، يقدّم بشير أبو منّه نفسه كخبير بكنفاني، فيما يهاجم المواقف المناهضة للإمبريالية في سورية وفلسطين. ويقدّم كنفاني على أنه صاحب «قيم إنسانية» تتعارض مع التزامه بالكفاح المسلح، من دون أي دليل على هذا الادعاء. ويتجاهل الكم الهائل من كتابات كنفاني السياسية.

شريك أبو منّه في هذا المسار، الأكاديمي اللبناني جلبير الأشقر، الذي يقدّم نفسه هو الآخر «كاشتراكي علمي» مهمته مهاجمة سورية والمقاومة اللبنانية والفلسطينية في مقالاته ويفصل بين غسان كنفاني والتزامه السياسي الماركسي ويهاجم «الستالينية»... إلخ.

الأشقر الذي دعم علناً حرب الناتو عام 2011 في ليبيا وما تلاها من مذابح، تلقّى تمويلاً مباشراً من وحدة سرية تابعة لوزارة الدفاع البريطانية تُدعى «وحدة المتخصصين الثقافيين الدفاعيين» (DCSU)، جرى تجنيد أكاديميين من خلالها لتقديم خدمات معرفية وثقافية تساعد القوات الإمبريالية في تدخلاتها العسكرية داخل العالم العربي وخارجه (سِكربس 2019). الغريب فعلاً أنّ منصات تطرح نفسها كمنصات ملتزمة «بمبادئ اليسار العالمي»، مثل مجلة «الدراسات الفلسطينية» أو مجلة «المادية التاريخية»، قد رحّبت بمساهماته، رغم عمله لمصلحة وزارة الدفاع البريطانية وهجومه المتكرر على المقاومة في غزة. وهنا يبدو أن إنكار وجود إسهام نظري ماركسي لكنفاني ليس إلا مطلباً من مطالب هذا التيار المتواطئ مع الإمبريالية، والذي يهاجم المقاومة المسلحة في غزة.

استعادة كاملة غير منقوصة

الأمثلة كثيرة على هذا النمط، وكان كنفاني قد حذّر بنفسه من أنّ «تشويه الحقائق التاريخية أحد أعمدة الهيمنة الإعلامية الإسرائيلية». واليوم، فإنّ الوقوف مع التحرر الفلسطيني وفي مواجهة الإمبريالية والصهيونية وأشكال الرجعيات كافة، يعني بالضرورة مواجهة هذا التشويه، القديم والجديد، بكل قوةِ، وتتطلّب أن نستعيد غسان كنفاني كاملاً، لا مشوَّهاً أو منزوع السلاح.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1247