بصمة متفردة

بصمة متفردة

تختزن الذاكرة الجمعية للناس مجموعة من الرموز والإشارات تمثل الروح المرئية للهوية الوطنية. من دونها، يصبح مفهوم الهوية غامضاً ومبعثراً. فهي تمثل جسراً يربط الماضي بالحاضر، والفرد بالجماعة. يمكن للناس، عبر معرفتها وفهمها، أن يحافظوا على هويتهم ويطوروها.

ما يميز الهوية أنها صيرورة مستمرّة ومساحة صراع بين الثبات والتحوّل، بين ما نعيشه ونتذكره ونفقده، ولكن المشكلة في الذاكرة أنها ليست سجلّاً مُحايداً، بل خاضعة للتغيير، يمكن أن تتعرض للحذف، وللتشويه. وهنا تكمن أهمية الرموز والإشارات في الحفاظ على حالة من التماسك والانسجام الداخلي ومنعها من التشظي.

الرموز الوطنية ليست مجرد أشكال وكلمات، بل حوامل للمشاعر والذاكرة الجمعية وتعتبر من أهم عناصر بناء وصياغة الهوية الوطنية، وطيفها واسع يشمل العلم والنشيد الوطني، والعملة، وفي بعض الدول ثمة زي وطني يميز الهوية الثقافية، إضافة إلى الأعياد والمناسبات (كعيد الاستقلال)، واللغة والأبطال والشخصيات والرموز التاريخية والآداب والفنون وحتى الأساطير والقصص المشتركة التي تخلق ذاكرة جمعية موحدة، وثمة رموز طبيعية ترتبط بالهوية الجغرافية والثقافية.

لا يكفي معرفة الرموز والإشارات، بل هناك ضرورة لفهمها وفهم آلية تشكلها وتطورها، خاصة في المراحل المفصلية في حياة بلد ما، إذ يمكن بذلك حماية الأجيال القادمة من العبث بمستقبل بلادهم من خلال التلاعب بوعيهم الاجتماعي والسياسي والتاريخي. وهذا ما دأبت عليه حملات الهيمنة ومحاولاتها محو الذاكرة الجمعية للناس والتلاعب بوعيهم في بلدان المستعمرات في القرن الماضي. وقد يتغير شكل هذه المحاولات التي كانت فجة ومباشرة وتستخدم طرقاً محددة كالإكراه مثلاً في بعض الحالات، أو التنميط...إلخ. ولكنها اليوم تأخذ أشكالاً أخرى، بالمضمون ذاته، وللهدف ذاته وهو المزيد من الهيمنة.

تمثل الرموز تجسيداً ملموساً للمفاهيم المجردة، فإذا كانت الهوية الوطنية شعوراً مجرداً بالانتماء، تحوّل الرموز مثل العلم أو النشيد الوطني هذا الشعور غير المرئي إلى شيء ملموس ومرئي ومسموع، يمكن للإنسان أن يراه ويسمعه ويشعر به. وينتج بذلك شعور بالوحدة والانتماء لـ (نحن)، فمثلاً عندما يرفع آلاف الأشخاص راية أو علماً أو يرددون أغنية ونشيداً، يختفي الشعور بالفردية مؤقتاً ويحل محله شعور جماعي قوي. يصبح الرمز نقطة تلاقٍ تجمع بين الأفراد رغم اختلافاتهم العرقية والاجتماعية والثقافية... إلخ، يذكرهم بأنهم جزء من كيان واحد أكبر. كما أنه ينقل قيماً مشتركة، حيث يحمل الرمز قصة وشحنة، وبالتالي يصبح أداة للتمييز والتعريف، فيبدو وكأنه «بصمة» يجري التعريف بها عن الذات ومصدر للتمايز عن الآخرين، مصدر للتفرد والانتماء الجماعي بآن معاً. حسب ما يؤكده بعض الرياضيين عندما يشرحون مشاعرهم أثناء التتويج في المنافسات العالمية، ويصدح نشيد بلادهم ويرتفع العلم. ولذلك، يعتبر الاعتداء على الرموز الوطنية اعتداء على الكيان المعنوي الذي تمثله.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1247