أفكار متقاطعة: ... إنّ الكرام قليلُ
1
قد يبدو الحديث عن الوطن والوطنية خروجاً عن المألوف والسائد في مرحلة طغت فيها السرديات الطائفية والدينية والقومية، بل قد يعدّه «ثوار الغفلة» و»ساسة ردّ الفعل» و»حزب الموقف اليومي» اللاهث خلف الحركة العفوية والمزاج الشعبوي المتقلّب مدعاةً للسخرية. ليكن ذلك؛ فحَمَلة الأفكار الكبرى والضرورات التاريخية طالما ظهروا أقليةً حتى يُرفع الستار عن تناقضات القاع الاجتماعي... لسان حالنا هنا “تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا، فقلتُ لها إنّ الكرام قليل.”
2
الوطنية التي نعنيها ليست أغانٍ حماسية ولا شعارات جوفاء تُستعمل غطاءً لصفقات الفساد المنظّم، كما أراد لها أركان وأبواق السلطة الساقطة. وليست مجرّد خرائط وجغرافيا أو نزعة رومانسية كما يروّج خطاب التبرير المبتذل وباعة الدم والضمير في سوق النخاسة المعولم. وكما يظن العقل المستقيل الذي يصرّ على ألّا يخرج من قوقعة الثنائيات الوهمية التي تكاثرت كالأشنيات في مستنقع الأزمة.
هي موقفٌ صريح في وجه العدوان المستمر: من «تنزّه» الطائرات الإسرائيلية في سماء سورية، إلى جولات جنودها الذين يستقطعون من الأرض ما يشاؤون في استهتار يجرح كرامة أي كائن حيّ يدبّ على هذي البلاد.
الوطنية السورية، بما تعنيه من وحدة السوريين ومصيرهم المشترك، هي خيمتنا الأخيرة. هي الردّ العملي الوحيد على جرائم الإبادة المتدحرجة فوق الجغرافيا السورية، وهي «ثأر» واقعي لدماء الضحايا. هي السدّ في وجه الوحوش الآدمية المنفلتة، لا الحرد السياسي، ولا الدعوات الصريحة أو المستترة إلى الانفصال، ولا مزاعم «تصحيح خطأ الأجداد» بذريعة سياسات السلطة، في مقاربة بدائية عمياء ومشبوهة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
هذه الوطنية تفترض السعي إلى إعادة فرز القوى السياسية بتياراتها الثلاث: الدينية والقومية واليسارية، بما يتيح تكوين كتلة اجتماعية واسعة قادرة على دفع المركب التائه في بحر التجاذبات الدولية والإقليمية نحو برّ الأمان، بعدما أوشك أن يغرق بالجميع. وتعني أيضاً تحديد التخوم بين قوى الحرب والتطرّف والانعزال، وبين القوى العقلانية التي صُودِر قرارها وتهمّشت قدرتها على التعبير عن إرادة السوريين.
3
الأزمة الراهنة بكل تراجيديتها ومفارقاتها ليست سوى انفجار «طنجرة الضغط» بعد تراكم طويل للأزمات والاحتقانات. لقد شاءت الجغرافيا السياسية أن تكون سورية في قلب المشاريع الدولية، بالتوازي مع تناقضات داخلية متعددة الأشكال. إن تلاقي الضغط الخارجي مع الغليان في الداخل وتفاعلاتهما يشكّل الخلفية الحقيقية لتعقيد المشهد السوري. تجاهل أيٍّ من هذين البعدين في قراءة «الغيرنيكا السورية» هو تهرّب من المعالجة الجادة، واستمرار في العبث الراهن، وصولاً إلى مشاريع الكانتونات، على عكس منطق التاريخ، وضرورات عالم اليوم الذي لا مكان فيه لدول صغيرة متشرذمة في مواجهة تحديات التنمية والتقدّم الاجتماعي.
4
قد تبدو الوطنية السورية اليوم أشبه بنحتٍ في الصخر، في ظلّ عجز حواملها السياسية والاجتماعية لأسباب موضوعية وذاتية. ليكن ذلك؛ فمتى كان الطريق مفتوحاً ومعبّداً وسهلاً أمام قوى الخير؟ إن التاريخ لا يصنعه المستسلمون، بل أولئك الذين يواجهون المحال بثقة في حركة الزمن.
ربما تبدو المهمة مستحيلة بالنسبة للعقل السياسي التقليدي: الأمّي معرفياً، الانتهازي قيمياً، الكسول عملياً، ذاك الذي يظن أن قطار التاريخ توقّف عند حالة الحطام الراهنة. لكن لا مستحيل أمام من يدرك أن الأزمات تحمل بذور الحلول، وحده من يمتلك الإرادة والأداة المعرفية التي تؤهله لالتقاط اللحظة التاريخية يمكنه أن يدفعها بالاتجاه الذي يعبّر عن مصالح الأغلبية المقهورة، لا الانتماءات الطائفية أو الشعبوية القومية البائسة. الواقع نفسه وتناقضاته وحركته كفيلة بفرز قوى الحل وتفجير طاقاتها الكامنة ودفعها إلى المقدمة.
5
ليس من العقلانية، ولا من الواقعية اختزال الثقافة السورية في ممارسات سلطة أو أي طرف يتسيّد المشهد اليوم، أو سلوك ميليشيا هنا أو هناك، واتخاذ ذلك ذريعة لموقف سياسي في قضية بحجم وحدة البلاد ومصير 23 مليون إنسان. الثقافة الوطنية السورية معطىً تاريخي تشكّل بالتراكم والتلاقح والتفاعل خلال قرن كامل. وهي تتجسّد في المشتركات السورية: في الدم والقهر المركّب الذي تقاسمه السوريون جميعاً خلال سنوات حرب العبث وقبلها، وفي مئات آلاف المعتقلين من مختلف أبناء سورية، وفي شعارات الحركة الاحتجاجية الأولى: الشعب السوري واحد– الشعب السوري ما بينذل، وفي علاقات الجيرة والصداقة في المدن والأحياء والقرى، وفي المدرسة والجامعة ومكان العمل، وفي دعوات الأمهات وصلاة الآباء كل صباح من أجل عودة أبنائهم سالمين، وصولاً إلى معارك السوريين من أجل الديمقراطية ومقاومة الأحلاف، وقبل كل ذلك في تضحيات وسلوك الآباء المؤسسين: يوسف العظمة، وسلطان باشا الأطرش، وعبد الرحمن الشهبندر، وصالح العلي، ورمضان شلاش، وسعيد آغا الدقوري.
أمام السوريين خيار واحد وحيد: تكافلهم وتضامنهم على أساس مصيرهم المشترك. وتجذير الوعي الوطني ودفعه في الاتجاه التاريخي الموضوعي، بما تمليه ضرورات الخروج من المستنقع الراهن من جهة، والاستحقاقات الكبرى التي يفرضها الواقع في السياسة والاقتصاد والاجتماع من جهة أخرى. أما خطاب العدمية الوطنية والروح الانهزامية، سواء أتى من طرف يرى في سورية مجرد «أرض رباط» أو من آخر يريدها كانتونات متصارعة، وسوق استهلاك تابع للكازينو الدولي، فلا معنى له إلا إعادة إنتاج الأزمة وتحويل المأساة إلى مهزلة.
إن الوطنية السورية، التي تجمع بين (كرامة الوطن والمواطن) وتستند على ما أنجزه الأسلاف وتستكمله بما تمليه المرحلة وضروراتها، ليست ترفاً فكرياً ولا شعاراً للاستهلاك، كما يروّج تيار الدياثة المتلبرلة، ومعه جحافل السذج والبلهاء بل ضرورة وجودية. هي الإطار الوحيد القادر على جمع السوريين في مواجهة مشاريع التفتيت، وعلى تحويل التضحيات إلى معنى، والدماء إلى جسور نحو المستقبل. من دونها، سنبقى أسرى العبث والفوضى، ونظلّ عالقين في دائرة القتلة والضحايا بلا أفق ولا خلاص.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1244