رأسمالية «بيغ فارما» والاحتكار: أربع ديناميكيات وراء تراجع الابتكار
ترجمة قاسيون بتصرف
أزمة إنتاجية صناعة الأدوية
تعاني شركات الأدوية الكبرى من أزمة إنتاجية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، اتسمت بركود خطوط إنتاج الأدوية الجديدة وانهيار براءات الاختراع.1 ففي عام 1995، على سبيل المثال، كان 75 من أفضل 100 دواء يعتمد على أربع عائلات فقط من الجزيئات.2 وتشير التقديرات أيضاً إلى أنه بين عامي 2024 و2028، ستواجه أكبر عشرين شركة أدوية خطر فقدان 180 مليار دولار من مبيعاتها بسبب انتهاء صلاحية براءات الاختراع.3 ولمواجهة هذه التحديات، لم تزد شركات الأدوية الكبرى استثماراتها في البحث والتطوير. بل اعتمدت الصناعة بشكل متزايد على مصادر خارجية للابتكار الطبي. على سبيل المثال، في عام 2023، تراوحت نسبة البحث والتطوير لأكبر عشر شركات أدوية كبرى من 15.6 إلى 23 في المئة.4 ومن بين 323 دواءً جديداً وافقت عليها إدارة الغذاء والدواء (FDA) من عام 2015 إلى عام 2021، تم تطوير 138 دواءً فقط من قبل أكبر عشرين شركة أدوية، وجاءت غالبية هذه الأدوية الجديدة (65 في المئة) من مصادر خارجية، بينما تم اكتشاف 5 في المئة بشكل تعاوني و28 في المئة تم اكتشافها داخلياً.5 وهذا يتماشى مع تقرير صادر عن مكتب الميزانية بالكونجرس، والذي وجد أنه في حين أن شركات الأدوية الكبرى تمثل أكثر من نصف الأدوية الجديدة التي وافقت عليها إدارة الغذاء والدواء منذ عام 2009، فإن 20 في المئة فقط، من التجارب السريرية للمرحلة الثالثة - وهي حاسمة لتقييم نجاح تطوير الأدوية - بدأت من قبل شركات الأدوية الكبرى.
مفهوم رأسمالية الاحتكار الفكري
تُمثل «رأسمالية الاحتكار الفكري» تطوراً لنظرية «الرأسمالية الاحتكارية» التي قدمها بول باران وبول سويزي. في حين ركزت الأخيرة على تركز الفائض الاقتصادي في أيدي الاحتكارات، تُبرز الأولى كيف تحول التقدم التكنولوجي نحو الاستحواذ والريع بدلاً من الابتكار المنتج. في الصناعة الدوائية، يتجلى ذلك عبر ثلاث سمات رئيسية:
1. خصخصة المعرفة العامة: تحويل المعرفة إلى ملكية خاصة عبر حقوق الملكية الفكرية.
2. تأثير عرقلة الابتكار: احتكار الأفكار يعيق تقدم الآخرين.
3. التقلص العالمي للفرص الاستثمارية: نتيجة الحماية المفرطة للملكية الفكرية.
أربع ديناميكيات لتراجع الابتكار
الديناميكية الأولى: احتكار المعرفة عبر الشبكات الأكاديمية-السريرية-التجارية
تعتمد «بيغ فارما» على شبكات تعاون مع الحكومات والجامعات والمختبرات البحثية الصغيرة لاستخراج الابتكارات، بينما تحتفظ بحقوق الملكية. فقانون «بايه-دول» (1980) في الولايات المتحدة يسمح للجامعات بترخيص براءات الاختراع الممولة حكومياً لشركات الأدوية. النتيجة: تراجع نسبة المؤلفين الرئيسيين من شركات الأدوية في الأبحاث المنشورة، رغم اعتمادها على الابتكار الخارجي.
الديناميكية الثانية: استخراج القيمة عبر تسعير الأدوية
تتحكم شركات الأدوية الكبرى في أسعار منتجاتها عبر احتكارات براءات الاختراع، مما يخلق «مرونة طلب جامدة». مثال: سعر دواء السكري «جانوفيا» (ميرك) كان 1.99 دولار في أوروبا مقابل 8.20 دولارات في الولايات المتحدة (2013). هذا الاحتكار يتيح لها فرض أسعار تعكس «ما يتحمله المجتمع» لا تكلفة الابتكار الحقيقية. كما أدت «أمولة» الصناعة إلى تحويل الأرباح نحو مكافأة المساهمين عبر إعادة شراء الأسهم، بدلاً من استثمارها في البحث والتطوير.
الديناميكية الثالثة: عولمة قوة الاحتكار الفكري
دفعت الشركات الأمريكية والدولية لتعزيز حماية الملكية الفكرية عالمياً عبر منظمة التجارة العالمية واتفاقية «تريبس» (1995). نتج عن ذلك:
- اتفاقيات «تريبس بلاس»: تشترط حماية أشد في الاتفاقيات الثنائية.
- عقبات أمام الأدوية الجنيسة (وهي «نسخة مكافئة للدواء الأصلي تُنتج بعد انتهاء مدة براءة اختراعه، بنفس المادة الفعالة والجودة.»): خاصة في الدول النامية.
مثال: رفع «جلياد ساينسز» دعوى قضائية ضد روسيا لإصدارها ترخيصاً إجبارياً لدواء «رمديسيفير» خلال جائحة كوفيد-19.
الديناميكية الرابعة: إقصاء المنافسين عبر احتكار المعلومات
تستخدم «بيغ فارما» ثلاث آليات لتعزيز احتكارها:
1. براءات الاختراع الثانوية: تمديد احتكار الأدوية عبر تعديلات طفيفة (الاستدامة الدائمة).
2. الأسرار التجارية: إخفاء تفاصيل التصنيع خاصة للأدوية البيولوجية المعقدة.
3. الاحتكار القانوني للبيانات: يمنح قانون «هاتش- واكسمان» (1984) فترة حماية بيانات تصل إلى 12 سنة للأدوية البيولوجية، مما يرفع تكلفة الأدوية المماثلة.
الآثار: جمود الابتكار وارتفاع التكاليف
أدت هذه الديناميكيات إلى:
- تراجع جودة الابتكار: معظم الأدوية الجديدة تعديلات طفيفة على أدوية موجودة.
- تضخم تكاليف البحث والتطوير: بلغت 6.16 مليار دولار لكل دواء جديد (2001–2020)، مع انخفاض العائد على الاستثمار إلى 1.2% في 2022.
- هيمنة قليلة: 7 من 16 شركة أدوية كبرى سجلت إنتاجية سلبية في البحث والتطوير.
نحو نموذج ابتكاري جديد
تظهر ديناميكيات الاحتكار الفكري كيف تحولت «بيغ فارما» من محرك للابتكار إلى قوة ريعية تعتمد على الاستحواذ الخارجي والاحتكار القانوني. لمواجهة هذا التراجع، يجب:
1. إصلاح أنظمة الملكية الفكرية: الحد من «الاستدامة الدائمة» وتعزيز الترخيص الإجباري.
2. دعم الابتكار المستقل: تمكين الشركات الناشئة والجامعات من المنافسة.
3. إعادة توجيه الأرباح: من الأمولة إلى البحث والتطوير طويل الأجل.
من دون هذه التغييرات، ستستمر أزمة الابتكار، مما يهدد الوصول إلى أدوية مبتكرة وبأسعار معقولة عالمياً.
وهكذا، بينما تُدرّ صناعة الأدوية إيرادات طائلة، يُثبّط أصحاب رؤوس الأموال الاحتكارية الفكرية الاستثمارات الجديدة في البحث والتطوير، مستغلّين الآثار المعيقة للآليات الثلاث. في ظل هذه الظروف، إلى جانب الديناميكيات الأربع المذكورة سابقاً، تتطور رأسمالية الاحتكار الفكري في صناعة الأدوية اليوم، ليس في اتجاه منطق التملك والتربح فقط، بل أيضاً في اتجاه انغلاق العلوم وتراجع الابتكار الطبي.
* أستاذة أبحاث مساعدة، معهد السياسة العامة، جامعة جنوب الصين للتكنولوجيا
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1232