دور الاستعمار وعملائه في العنف الطائفي (من الهند إلى سورية)
ما زالت آلام السوريين وجراحهم الروحية والجسدية حاضرةً في الذاكرة والحياة من عواقب الاقتتال الداخلي والتدخلات الخارجية خلال سنين الأزمة السورية منذ 2011، وتجدّدت مؤخراً مع الأحداث المؤسفة في الساحل السوري. وحتّى تُعالَج حقّاً لا يمكن الاكتفاء «بالحلّ الجِنائي» رغم أهمّيته كخطوةٍ يترّقبها كلّ السوريين الحريصين على الوحدة الوطنية، واختبارٍ لمدى صدقيّة وجدّية ومسؤولية السلطات الجديدة في البلاد. لكن الحلّ الأعمق والأوسع الذي لا يمكن لغيره من حلول جزئية تأمين حماية من تفاقم هذه المخاطر وتكرارها، ولا تحقيق عدالةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ دونه، هو الحلّ السياسي الشامل، الذي يجب أنْ يصحّح ضمناً الأخطاء والكوارث الناجمة عن الاستئثار بالسلطة في سورية والمستمرّة منذ أواخر خمسينيّات القرن العشرين حتى هذه اللحظة، عبر استعادة توحيدها أرضاً وشعباً وإشراك الشعب السوري إشراكاً حقيقيّاً في سلطة تقرير مصيره بنفسه.
في هذا المقام، سيكون مفيداً التذكير ببعض جوانب أحداث العنف الطائفي في الهند إبان الاستعمار البريطاني وصولاً لتقسيم تلك البلاد، كأحد الأمثلة التاريخية التي تؤكّد وجود أسباب سياسية ومادّية أساساً وراء كلّ عنفٍ طائفي في التاريخ، وكيف يلعب فيها الاستعمار وعملاؤه (من البريطاني في حالة الهند إلى «الإسرائيلي» والغربي -بالدرجة الأولى- في الحالة السورية) دوراً في إشعال فتيلها وتسعيرها. وهذه الحقيقة بالطبع لا تعفي القوى المحلّية من أبناء الشعوب والبلدان المُستَهدَفة بمخططات التقسيم والتفتيت ولا تعفي سلطات البلدان وسياسيّيها ونخبها من المسؤولية عن الانجرار إلى الفخ، أو التقاعس عن الخروج منه إنْ وقعوا.
موجَزٌ لتاريخ العنف بين الهندوس والمسلمين
تاريخ العنف الطائفي بين الهندوس والمسلمين في الهند عندما كانت مُستعمَرة بريطانية، معقَّد ومتعدد الأوجه، وهو متجذر بعمق في الهياكل الاجتماعية والسياسية التي شكّلتها الإدارة الاستعمارية البريطانية عَمداً تحت استراتيجية كبرى معروفة هي «فرِّقْ تَسُدْ»، والتي لم تَتركْ شبهَ القارة الهندية تستقلّ (عام 1947) إلّا بعد تقسيمها إلى دولتين (الهند وباكستان)، برسم «خط رادكليف» والتسبب بواحدة من أكبر موجات المذابح والهجرات في تاريخ البشرية؛ حيث نزح ما يقدَّر بـ10-15 مليون إنسان، وقُتل 1-2 مليون في أعمال عنف طائفية.
واستخدَم الاستعمار البريطاني سياساتٍ وعمليات متنوّعة، بعضها علني وبعضها سرّي صُمّمت للحفاظ على السيطرة الاستعمارية على شبه القارة الهندية وعرقلة نشوء حركة تحرّر وطني موحَّدة واسعة ضدّها، ثمّ محاولة إضعاف هذه الحركة بعد نشوئها بالفعل.
بعض الأشكال السياسية لـ«فرق تسد»
1- الدوائر الانتخابية المنفصلة: كانت إحدى أقدم الخطوات وأكثرها تأثيراً نحو التقسيم الطائفي هي إدخال دوائر انتخابية منفصلة للمسلمين والهندوس بموجب قانون المجالس الهندية لعام 1909 (إصلاحات مورلي-مينتو)، حيث منعت المسلمين من أن يصوّتوا سوى لمرشَّحين مسلمين فقط، والهندوس لمرشَّحين هندوس فقط. وكانت الذريعة البريطانية الظاهرية «حماية التمثيل المُسلِم»، إلّا أنّ الهدف الحقيقي من تصميمهم ذلك النظام الانتخابي الطائفي غير الوطني هو تعزيز الانقسامات الطائفية من خلال جعل السلطة السياسية تعتمد على الهويّة الدينية.
2- تقسيم البنغال (1905): جاء قرار اللورد كرزون بتقسيم البنغال عام 1905 كمحاولة لفصل الجزء الغربي من البنغال ذي الأغلبية الهندوسية عن الجزء الشرقي ذي الأغلبية المسلمة. ورغم محاولة تبريره رسمياً كإجراء إداري «بريء»، إلّا أن العديد من الهنود اكتشفوا أنّه خطوة متعمَّدة لإضعاف حركات الوحدة الوطنية عبر اختلاق خطوط انقسام دينية. والحقيقة أنّ هذه الخطوة الاستعمارية الخبيثة لم تمرّ بسهولة، بل أثارت احتجاجات وطنية واسعة النطاق ووحّدت الهندوس والمسلمين ضدَّ البريطانيين، ممّا أجبر المستعمِرين على التراجع عن قرارهم في عام 1911، ولكن ليس قبل تمكّنهم من الدفع خطوةً إضافيةً نحو زعزعة الثقة بين مكوّنات الشعب الهندي.
3- عمليات إحصاء سكاني بطريقة تثير الفتن: أجرى البريطانيون تعدادات سكانية تفصيلية عبر الهند، تعمّدوا فيها تقسيم الشعب بناءً على الدين والطائفة والإثنيّة. ولم تكن هذه التصنيفات مجرَّد جانب «تقني» لجمع البيانات؛ بل عزَّزت الهويّات الضيّقة على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وخلقت منافسة بين الجماعات على الموارد والسلطة السياسية. على سبيل المثال، ركّزت تقارير التعداد السكاني على التفوُّق العددي لهذه الطائفة أو تلك (أكثريات وأقلّيات)، ممّا زاد من مخاوف كثير من الهنود بشأن التمثيل والحقوق.
الحرب النفسية والسرّية البريطانية
إلى جانب السياسات العلنية مثل الدوائر الانتخابية الطائفية المنفصلة، انخرط البريطانيون أيضاً في عمليات نفسية سرّية لإشعال التوترات بين الهندوس والمسلمين. كانت هذه الجهود أقل توثيقاً ولكن ألحقت أضراراً كبيرة من حيث تعزيز الكراهية وعدم الثقة بين أبناء الشعب الواحد. ومن أمثلتها:
1- إثارة أعمال الشغب والاقتتال الطائفي: هناك العديد من الروايات التي تشير إلى أن المسؤولين الاستعماريين البريطانيين شجعّوا إطلاق هذه الأعمال في حالات كثيرة أو لم يفعلوا الكثير لوقفها بعد انطلاقها. على سبيل المثال، خلال مذبحة كالكوتا الكبرى عام 1946، أدت الاشتباكات بين الهندوس والمسلمين إلى مقتل الآلاف من الطرفين. ويقرّ المؤرخون بأن السلطات الاستعمارية البريطانية تأخرت في التدخل – على الأقل، إنْ لم تكن قد أشعلت شرارتها بالفعل - تاركةً العنف يتصاعد دون رادع.
2- الشائعات والدعاية: استخدم البريطانيون الشائعات وحملات التضليل لزيادة المخاوف الطائفية. مثلاً، تم توزيع منشورات مثيرة للفتنة. وإضافة للمذابح التي ارتكبت فعلاً وبتحريض أو تواطئ الاستعمار، جرى أيضاً ترويج قصصٍ إخبارية أخرى مزيّفة عن فظائع ارتكبتها هذه الفئة أو تلك ضدّ الأخرى، لإثارة الغضب والانتقام. خلال فترات التوتر المتصاعد أثبتت مثل هذه التكتيكات فعاليتها في تحويل النزاعات الصغيرة إلى مذابح كاملة، رغم أنّه كان يمكن احتواؤها بحلولٍ سلميّة ومنع تفاقمها.
3- عمليات أجهزة الاستخبارات البريطانية: بما في ذلك «الشعبة السياسية» سيّئة الصيت، ولاحقاً «مكتب الاستخبارات»، حيث راقبت قادة حركة الاستقلال والتحرر الوطني عن كثب وعلمتْ على استغلال أيّ خلافات تنشأ فيما بينهم. وغالباً ما اشتغلت الاستخبارات البريطانية على إبراز وتضخيم الخلافات بين القادة الهندوس والمسلمين مثل الزعيم مهاتما غاندي (هندوسي) ومحمد علي جناح (مسلم)، ووصفهم بأنهم «أعداء لا يمكن التوفيق بينهم»، مما زاد من الاستقطاب الديني والطائفي، وشقّ الصف الوطني.
دور الدعاية الفاشية
خلال الحرب العالمية الثانية، انخرطت قوى أخرى أيضاً في حرب نفسية تهدف إلى زعزعة الهند، ولو من باب العداء لبريطانيا، كما توضح بعض الجهود النازية، حيث تقاطعت أحياناً مع التوترات الطائفية القائمة بين الهندوس والمسلمين، مما زاد من حدة الانقسامات. ويُتَّهم أحد الزعماء الهنود سوبهاش شاندرا بوز بالتورط في تلقي دعم من اليابان وألمانيا النازية لراديو «آزاد هند» الذي كان يديره بوز نفسه. ورغم أنّ ذلك الراديو لعب دوراً في تعبئة الهنود ضد الحكم البريطاني، لكنه واجه انتقادات بأنّ خطابه أحياناً كان منحازاً أكثر للهندوس. وسعتْ دول المحور أيضاً إلى استغلال الانقسامات الطائفية القائمة لإضعاف المؤتمر الوطني الهندي والحركات الوطنية الأخرى. فاليابان الفاشية آنذاك، التي احتلّت أجزاء من جنوب شرق آسيا خلال الحرب، كانت تبث رسائل تنتقد سوء إدارة البريطانيين في الهند ليس حباً بالشعب الهندي بالطبع، بل لعبت بشكل خفي على المخاوف الطائفية، مشيرةً إلى أن السياسات البريطانية كانت تفضّل طائفةً على أخرى، مما عزّز الشكوك الموجودة بالفعل بسبب تكتيكات البريطانيين في «فرّقْ تَسُدْ».
بدورها قامت ألمانيا النازية ببثٍّ إذاعي موجَّه إلى المستمعين الهنود، عبر الأمواج القصيرة، غالباً ما كان يسلّط الضوء على المظالم المتعلقة بالطائفة والدين، الذي يواجهه المسلمون تحت قيادة الأغلبية الهندوسية أو العكس، وذلك ليس من أجل حلّ المشكلات بل من لتسعيرها وتفجيرها بشكلٍ يخرج عن سيطرة خصومهم البريطانيين.
دور العملاء المحليّين والعمليّات السرّية
بالإضافة إلى التأثيرات الخارجية، استخدم البريطانيون عملاءَ محليّين جنّدوهم من أبناء الهند نفسها، وعمليات سرية للتلاعب بالمشاعر الطائفية. تم تصميم هذه الإجراءات السرّية للحفاظ على السيطرة على الهند من خلال ضمان عدم ظهور معارضة موحَّدة ضد الحكم الاستعماري. ومن الأمثلة على ذلك:
1- عنف العصابات الطائفية: يشير مصطلح «غونداس» إلى البلطجية أو العصابات المستأجَرة أو المُرتَزَقة التي تستخدم لإثارة العنف. وهنا لا بدّ من الانتباه لواقع الإفقار الاقتصادي والتجويع الذي أدى إليه النهب الاستعماري مما خلق فئات من المهمَّشين المستعدّين للتحوّل إلى قَتَلة مأجورين بسهولة، مما يبرز أهمية وخطورة العامل الاقتصادي. وهناك روايات تشير إلى قيام المسؤولين الاستعماريين البريطانيين بتمويل أو تشجيع مثل هذه المجموعات بشكلٍ سرّي خلال فترات الاضطرابات. مثلاً، خلال أعمال الشغب فيما سمّي «يوم العمل المباشر» عام 1946 الذي دعت إليه «الرابطة الإسلامية» للمطالبة بباكستان خرَجَ العنف عن السيطرة، مما أدى إلى مقتل الآلاف، وتتراوح الانتقادات للسلطات البريطانية بين روايتين: إمّا أنها فشلت في التدخل بشكل فعّال أو سمحت عمداً بتصاعد العنف.
2- استغلال الرموز الدينية: في بعض الحالات، استغل البريطانيون الرموز أو التقاليد الدينية المقدّسة لإثارة الغضب وتأليب الهنود بعضهم على بعض. على سبيل المثال، تم ترويج شائعات طائفية حول ذبح الأبقار (وهي قضية حساسة للهندوس) أو تدنيس المساجد (وهي قضية حساسة للمسلمين). أدت مثل هذه الاستفزازات في كثير من الأحيان إلى هجمات انتقامية ممّا خلق دورات من العنف.
3- سياسة «فرق تسد» داخل المنظمات الوطنية: حتى داخل المنظمات الوطنية مثل المؤتمر الوطني الهندي، عمل البريطانيون على بذر الفتنة. مثل القيام بتصوير قادة مثل مهاتما غاندي، الذي دعا إلى الوحدة بين الهندوس والمسلمين، على أنه يفضل طائفةً على أخرى. وبالمثل، قاموا بترقية شخصيات مثل محمد علي جناح، وتصويره كمدافع عن مصالح المسلمين حصراً، مما عمق الانقسام بينه وبين قادة المؤتمر الوطني الهندي.
الآليات النفسية الرئيسية للفتنة
كان هناك تأثير نفسي طويل المدى للسياسات الاستعمارية البريطانية، فمن خلال تصوير الهندوس والمسلمين بشكل مستمر على أنهم مجموعات متنافرة «بشكل طبيعي»، خلق البريطانيون نبوءةً تحقّق ذاتها. فأدَّت إلى التقسيم الكارثي للهند في عام 1947 وترك ندوب استمرت حتى بعد الاستقلال. ومن أبرز آليات التأثير:
1- الخوف من التهميش: شعرت كل من الفئتين (الهندوس والمسلمون) بعدم الأمان بشأن مستقبلها. خشي الهندوس من هيمنة المسلمين في بعض المقاطعات، بينما قلق المسلمون من تهميشهم في دولة ذات أغلبية هندوسية. وتم تعزيز هذا الخوف المتبادل بشكل متعمَّد من خلال السياسات البريطانية.
2- التجريد من الإنسانية: من خلال الدعاية وتقارير التعداد السكاني والأطر القانونية، جرَّد البريطانيون كلَّ فئةٍ من إنسانيتها في عيون الفئة الأخرى. على سبيل المثال، تصوير المسلمين على أنهم موالون لحكّام أجانب (مثل المغول) أو الهندوس على أنهم متعاونون مع النخبة البريطانية، خلق صُوراً نمطية غذّت الكراهية.
3- فقدان الثقة: أدت سياسات النكث المتكرر بوعود الإصلاح أو التمثيل السياسي من قبل السلطات إلى تآكل الثقة بين فئات المجتمع الهندي، وتم التلاعب بالوعي بحيث أصبح سهلاً على الناس بدلاً من إلقاء اللوم على الاستعمار وعملائه، أن يلقوا اللَّوم على بعضهم بعضاً ليس كصراع سياسي طبيعي بل بشكل طائفي (لوم إحدى الطائفتين للأخرى).
الخلاصة
تعود جذور العنف بين الهندوس والمسلمين إلى فترة الحكم الاستعماري البريطاني في مزيج من العمليات التي حرّكتها الحكومة الاستعمارية البريطانية بشكلٍ متعمّد، مع تورّطٍ داخلي (سواء كعمالة مباشرة أو كأخطاء سياسية) من بعض الناس والنخب. ولا بد للسوريين من أخذ العبرة من هذا التاريخ وغيره، إضافة للعبرة من تاريخنا القريب خلال حكم سلطة الأسد البائدة أيضاً، لنؤكّد مجدَّداً أهمّيةَ الحلول السياسية الحقيقية والشاملة التي تمكّن السوريين من تحقيقِ وحدتهم وكرامتهم وأمنهم بأوسع المعاني (من الأمن على أرواحهم إلى معيشتهم وحرّية رأيهم وتعبيرهم). فكما رأينا في التجربة الهندية مثلاً، كانت كثيرٌ من الأساليب في إثارة الفتنة والعنف الدموي الطائفي تتعلّق بسياسات معيَّنة خاطئة، كتصميم أطر دستورية أو قانونية مَعيبة وملغومة ومحفوفة بالمخاطر، مثل سياسات الدوائر الانتخابية الطائفية المنفصلة بدل أنْ تكون البلاد دائرة انتخابية واحدة ونسبية، أو إجراءات خاطئة لا تتعامل مع الشعب على أساس المواطنة المتساوية بل وفق هويّات ضيقة (دينية وطائفية وقومية وغيرها)، كما برز افتعال الفتنة من الاستعمار البريطاني أثناء التعداد السكاني مثلاً، وغير ذلك من ممارسات أدت إلى بَذْر عدم الثقة وإشعال التوترات، ممّا ساهم في سفك الدماء على نطاق واسع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1218