سياسةٌ ترسم وقع الحياة..

سياسةٌ ترسم وقع الحياة..

كانت الآراء السياسية في السابق تبدو مجردةً  معزولة عن تفاصيل الحياة اليومية لمعتنقيها، تظل حبيسة طاولات المقاهي والكتب والمقالات، أو تشكل مادة دسمة لنقاش محتدم ممتع في السهرات. أما في سورية اليوم فالوضع مختلف تماما:ً إذ يدفع السوريون ثمن موقفهم السياسي أينما ذهبوا وكيفما تحركوا، بعد أن أصبح الحدث السياسي، وشكل الحل الذي تبنته الأطراف الفاعلة في الحدث السوري يرسم تفاصيل يومهم ويقرر مصير حياتهم لحظة بلحظة.   

صرخة رعب مكتوم توقظ السوريين من نومهم كل صباح لتفتح العيون على كابوس جديد( فالكابوس لم يعد ينتهي بالاستيقاظ وإنما يبدأ به)، تستقبل حواسهم الناعسة رائحة البارود والغمام الأسود في الهواء، تحاصرهم ومضات من صور الشهداء في نشرة أخبار الأمس، ليعلموا بذلك أن نهاراً جديداً قد بدأ (التعبير هنا ليس مجازياً).   

 في المناطق التي لاتزال تعيش نوعاً من ترف الحياة الطبيعية، يحاول الناس تنظيم جدول حركتهم اليومية، آخذين في الحسبان +2 ساعة إضافة للزمن الذي يحتاجه عادةً أي نشاط يومي -كاللحاق بموعد الامتحان أو العمل- تحسباً للوقوف الطويل على حواجز التفتيش ضمن طوابير غير منتهية من السيارات والضجة والسائقين الغاضبين، أو في حال الإغلاق المفاجئ لأحد الطرق، أو حدوث اشتباك دون مقدمات.

بينما يقف آخرون مقابل واجهات المحلات، متجمدين أمام أسعار السلع. يعيدون في ذهنهم تقليب قائمة المشتريات التي تتقلص يوماً بعد يوم، يتساءلون إن كانوا سيحتفظون بوظيفتهم أم سيخسرونها إذا ما استمر الحال على ما هو عليه الآن، يبتعدون مسرعين هاربين من الواجهة والأفكار المرعبة التي ولدتها.

ومع خريف يقترب، يمسي المشهد السوري أكثر قتامة؛ المدارس ستفتح أبوابها بقرار رسمي، لكن لا قرار رسمياً يتنبأ بمصير اللاجئين الذين افترشوا قاعات وصفوف الدراسة والخيم والفلاء بعد أن هدمت بيوتهم؟ كيف سيودع الأهل كل يوم أبناءهم إلى المدرسة وهم يعلمون بأنهم ربما لن يعودوا؟ كيف سيحتمل اللاجئون برودة الشتاء ونقص الموارد والأغذية، في ظل الشعور الحقيقي بالعجز عن القيام بأعمال الإغاثة وتأمين الاحتياجات للاجئين جدد سيأتون غداً وبعد غد، ورقعة دمار سوداء تتسع متراً فمتراً؟؟

في ظل واقع كهذا تختفي الحدود بين الموقف السياسي والحياة المعاشة، ينعكس الموقف السياسي خيماً وطوابير وملاجئ وحواجز تفتيش وأرض معركة..

 هل يدرك الذين يتسمرون أمام شاشات الكومبيوتر، أو يتشدقون في المقاهي والمجالس الخاصة  مسؤوليتهم عما يحصل حينما  يصرون على تأييدهم لاستمرار الحل العسكري للأزمة ولعمليات السحق والتطهير والتنظيف على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي؟ أو الذين يدعمون صفحات المعارضة المسلحة والجيش الحر في المقابل؟ ألا يرون كيف تترجم آراؤهم السياسية والضغط على زر «أعجبني» في الواقع؟

من ينادي بضرورة الحسم باستخدام «الحذاء العسكري» ينسى احتمال أن يقع هو ضحية عملية السحق تحت ثقل الحذاء الضخم، كما ينسى احتمال  أن قدمه قد تكون إحدى الأقدام التي سترتديه عندما يستدعونه للخدمة الاحتياطية، ليختبر بعد ذلك قدراته الشخصية على الحسم إن لم يسرع هارباً –على وقع الأقدام ذاتها- خارج البلاد.

ومن ينادي بضرورة  انتصار معركة تحرير دمشق أو حلب، و يؤذن باقتراب ساعة الصفر، يتجاهل مسؤوليته في وصول البلاد إلى ما هي عليه اليوم نتيجة تبنيه ودعمه الحل المسلح للأزمة ، كأنما يطلب هو من الآخرين أن يقاتلوا أو حتى يستشهدوا بدلاً عنه، وإذا ما سئل عن استعداده للقتال يعلن أنه مسالمٌ ينبذُ العنفَ في الواقع- ولا يقدر على إيذاء نملة- كما لو أنه يوافق ضمنياً أن ُيتم غيره الجزء القذر من العملية، ويعيش هو مرتاح الضمير لكونه من المحظوظين ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء!!

لا يمكن الظن بأن الرأي السياسي وحده أو الموقف المعلن هو المولد للواقع الموضوعي الذي نعيشه كل يوم، لكن في المقابل لا يجب التقليل من أثر الآراء والمواقف والأفكار المتذرذة المتفرقة حينما تجتمع لتشكل رأياً عاماً  موحداً يمارس ضغطاً على جميع الأطراف.

عاجلاً أم آجلاً سيجد السوريون أنفسهم أمام أسئلة مصيرية لا تحتمل التأجيل: إلى متى ؟ إلى متى سوف نحتمل الاستيقاظ على الكابوس ذاته، الألم ذاته، والخوف ذاته؟ إلى متى سوف نتبنى السلاح كحل بالرغم من أن التقدم الوحيد الذي أحرزه تقدم في عدد الضحايا فقط؟ إلى متى... ؟