المسرح والكواليس: «فاني وألكسندر»
صباح جلّول صباح جلّول

المسرح والكواليس: «فاني وألكسندر»

ينزل الصبي ألكسندر سرواله وينحني على الطاولة. يحمل الأسقف عصاه ويجلد ألكسندر على قفاه بكل ما أوتي من قوة، مرّة بعد مرة، بعد مرة.

"هل تفهم أنني قد عاقبتك بدافع الحبّ؟"، يقول الأسقف لألكسندر عندما يقف على قدميه. يختصر هذا المشهد علاقة المخرج السويدي إنغمار برغمان بالدين طوال حياته. 

ربما ليس هناك من شيء لم يقله إنغمار برغمان في فيلمه السينمائي الذي أراده الأخير في مسيرته: "فاني وألكسندر". الحياة والموت، الله، الضعف والخوف، شيء من الكوميديا، شيء من التراجيديا، بعض الواقع وكثير من الفانتازيا. عوالم داخل عوالم أوجدها برغمان في عمل طويل بغاية الكثافة. إن كان في السرد والحدث، أو في الصورة والأسلوب البصري والألوان، أو في الرموز والإسقاطات والدلالات.

يحكي الفيلم قصة عائلة "إيكداهل" الميسورة التي تعيش في بلدة سويدية، وتجري أحداثه بين عامي 1907 و1910. فاني وألكسندر ولدان لأوسكار وإيميلي اللذين يديران مسرحاً في البلدة. تنتمي العائلة الصغيرة إلى عائلة أكبر من آل إيكداهل نتعرف إليهم بشكل جماعي في أول الفيلم، ثم بشكل فردي معزول في وسطه، إلى أن نصل إلى الحدث الذي سيقلب حياة العائلة رأساً على عقب. كل ذلك من خلال بنية سردية تقليدية يمسك برغمان بتفاصيل الربط والحل فيها بسلاسة.

نصف ساعة من الفيلم خصّصها برغمان لاستعراض احتفالات ليلة عيد الميلاد بكل مراحلها، يسمح فيها للكاميرا أن تجول بحرية مع الممثلين في كل أرجاء المنزل، مع الألوان والضحك والرقص. يغرقنا برغمان في جو الحياة والفرح المنتشر في كل زواياه وشخوصه بخلاف أفلامه التي اعتدناها سابقاً، والتي تتقشف في تحرير حركة الكاميرا وتحب اللقطات المقربة. لكن مهلاً، بعد انتهاء الاحتفالات، وأحياناً خلالها، فإننا نجد شيئاً لا يشبه البهجة تحت السطح بقليل. إن جميع "الكبار" في الفيلم خائبون بطريقة أو بأخرى، وذلك هو سر الجميع الخفي.

بعد وفاة والد ألكسندر بشكل مفاجئ، تتزوّج أمه أسقفاً صارماً تعتقد أن وجوده سيكون مفيداً لأولادها، لكنّه سرعان ما ينقلهم من البيت الأرستقراطي المزين بالألوان إلى منزل متقشف أشبه بالدير. لا يتقبل الولدان زوج أمهما، ويتمرد ألكسندر، الذي يهوى تأليف القصص، على سلطة الأسقف. شبح والد ألكسندر يظهر له دائماً، وبين خيالاته وقصص السحر يكتشف ألكسندر واقعاً مغايراً.

"سيكون من الأفضل لو أنك تذهب إلى السماوات، فإنك لا تستطيع مساعدتنا هنا على أي حال. لماذا لا تذهب إلى الله وتقول له أن يقتل الأسقف؟ أو أن الله لا يهتم بك، ولا بأي منا؟ هل سبق أن رأيت الله أصلاً حيث أنت؟"، يقول ألكسندر لشبح والده، إذ تتكشّف الثيمات البرغمانية في القسم الثاني في الفيلم بشكل أكثر وضوحاً.

"لطالما اعتقدت أنني محط إعجاب الناس. إنني حكيم، منفتح، وعادل. لم أعتقد يوماً أن أحدهم يمكن أن يكرهني. إبنك يكرهني. إنّني أخاف منه"، يقول الأسقف لإميلي. رجل الدين يخاف ممن  يشعرونه بأنه محتقر في عيونهم. هذا العاقل الكبير يريد أن يتحدّى ولداً صغيراً، ويريد أكثر من أي شيء أن يكسره.

عندما يساعد أحد الأصدقاء ألكسندر على الهروب ويأويه في منزله، يتعرف الصبي إلى اسماعيل "الخطر" الذي يقول لألكسندر أن بإمكان خيالاته أن تصير حقيقة، ويساعده على تخيل موت الأسقف. إنها حقّاً عوالم مكدسة فوق بعضها البعض..

العائلة الكبيرة، شخصية العم غوستاف المرحة، المسرح والسيرك تذكر بعوالم فيديريكو فيليني نوعاً ما. نشعر بأن برغمان، الوجودي الكبير الذي يأخذ الحياة والموت بجدية مطلقة، يسمح لنفسه هنا بأن يعترف أن كل شيء ممسرح وأن في كل حالة مجال للعب. "جميعنا يمثل الدور المسند إليه. بعضنا يؤدي بدون اكتراث، وبعضنا يهتم بالتفاصيل بحرفية. أنا من النوع الثاني"، هكذا تقول الجدة.

الفيلم صُنع أساساً للعرض على التلفزيون السويدي، كسلسلة من أربع حلقات بنفس العنوان، لكنّ برغمان قطعه إلى فيلم طويل من 188 دقيقة من أجل إطلاقه في السينما عام 1982. حاز الفيلم على 4 جوائز أوسكار، هي جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية، أفضل سينماتوغرافيا، أفضل إخراج فني، وأفضل أزياء.

"ضمن نطاق الواقع الهش، يغزل الخيال ناسجاً أشكالاً جديدة." 

لقد خرّبنَا برغمان. خطا إلى دواخلنا وعبث بمحتوياتنا ثمّ رمانا مجدّداً في العالم أشخاصاً آخرين.

 

المصدر: السفير