التفاؤل بترجيح العقل ضد التشاؤم والغرائزية
ناجي مقدسي ناجي مقدسي

التفاؤل بترجيح العقل ضد التشاؤم والغرائزية

لا شكّ بأنّ كثيراً من المشاهد المؤلمة خلال الأيام القليلة الماضية قد اعتصر لها قلب كلّ السوريّين الوطنيّين، ونكأت كذلك جراحاً لم تندمل بعد في ذاكرتهم عن شبيهاتها أيضاً في عهد السلطة البائدة. حيث تجدد في الساحل السوري منذ أيام نزف الأخوة من مدنيين أبرياء وشبان القوى الأمنية على حدّ سواء، على أيدي مجرمين مسلّحين يضمّون كلّاً من فلول السلطة الساقطة من جهة وممارسي الجرائم بحق الأبرياء بذريعة مقاتلة هذه الفلول من جهة ثانية. ولا شكّ بأن العقلانية والحكمة والعدل تقتضي اعتبار هاتين «الجهتين» الأخيرتَين جهةً إجرامية واحدة متساويةً في الإثم من النواحي الأخلاقية والإنسانية والسياسية والأمنية، ويجب محاكمتهم ومحاسبتهم لينالوا قصاصهم العادل بسبب مشاركتهم في تفجير مساعي استعادة الاستقرار والوحدة وحقن دماء الشعب السوري، وهي المساعي التي لا يسعى عامداً إلى تفجيرها والاستثمار فيها إلّا كلُّ عدوٍّ مبين للشعب السوري، وعلى رأسهم الصهيوني الذي يجاهر بعدائه لشعبنا ولوحدتنا فيسعى للفتنة والتقسيم بعد أن فشل في هدفه الأعلى بإنهاء سوريا كلّياً.

رغم تأثّر جماهير واسعة من السوريين بهذه المظالم، لكن ولأن هدفها بالذات هو إحباطهم وإفقادهم الأمل أو العزيمة لمواصلة كفاحهم للنهوض من تحت ركام البلاد وإعادة بنائها وإحيائها من جديد، لأنّ هدف هذه الجرائم هو إجهاض هذا النهوض بالذات، يجب الوقوف في وجهها وتوسيع الصدر والعقل معاً، أو كما يقال إبقاء العقل بارداً إلى جانب القلب الحارّ المتلهّف على سلامة البلاد وشعبها. ولا يمكن أن يقوم تفاؤل ثوريّ حقيقي سوى على هذين الركنين: العقلانية التي تعني فيما تعنيه عدم إنكار المشكلات والتحديات والتفكير الهادئ في أفضل الحلول الممكنة، والإرادة والقوة النفسية والروحية والعاطفية التي تساهم في تدفئة القلوب وتوسعه الصدور والاحترام بين أبناء الوطن الواحد وأصحاب المصلحة الوطنية المشتركة.
ومسؤولية التعقّل ضدّ الغرائزية والانفلات كثيراً ما لا تكون مسألة سهلة، ولكن في المصاعب تظهر معادن الناس، والسوريون شعب عريق صُقِلَت في معدنه الطيبة والإخاء والعيش المشترك على تنوّعه التاريخي والسياسي والثقافي والديني والطائفي.
من جهة ثانية حتى هذه المظالم على مأساويتها تعتبر تحدّياً للخطابات المفرطة في تبسيط المشكلات، والطوباوية التي قد تظهر لدى شرائح ونخب من الناس عندما يحدث انتقال كبير من وضع قديم إلى وضع جديد كالذي حدث في سوريا، فيظن البعض أنّ «الانتصار» بات ناجزاً ونهائياً، وهنا ربما يتغلب لديهم عنصر العاطفة على العقلانية، بدل التعامل مع المرحلة على أنها ما زالت هشّة وانتقالية وبالتالي تحمل المخاطر إلى جانب الفرص، وعلى قدر العقلانية ترتفع المسؤولية، وينضبط السلوك ولا يجنح إلى التسرّع أو التهوّر فيما لا يجب التسرّع فيه، أو العكس، التلكّؤ والتباطؤ فيما لا يجب الإبطاء فيه.
وتاريخياً، لم تكن مسارات التطور في المراحل الانتقالية سهلة، وكان هناك صراع دائم بين التشاؤم والتفاؤل في سياقات ثورية مختلفة، مثل النضالات ضد الاستعمار أو الثورات السياسية. ويكون من المهم أن تدرك القوى القيادية وكذلك الشعوب في الأوضاع الجديدة بأنّ العثرات والمطبات في الطريق والإخفاقات هنا أو هناك هي فرصة لتعلّم العقل أن يرشِّدَ التوقعات الطوباوية المفرطة ويهذّبها، مما يساعد على إعادة ضبط المسار نحو جهود أكثر عمليّة وتفكير أعمق للتغلب على العقبات. وبهذا المعنى لدى الثوريين الحقيقيين (الذين هم بشر في النهاية) فإنّ مشاعر الإحباط أو خيبة الأمل أو الغضب يمكن أن تؤدي دوراً بنّاءً وإيجابياً في الحركات الثورية بشرط أن تعمل على إيقاظ العقل من بعض الأوهام هنا أو هناك، وشحذ العزيمة على حلّ المشكلات بالطريقة الصحيحة والسليمة، مما يحفز الأفراد والجماعات على إعادة تقييم استراتيجياتهم وأهدافهم، وأن تعيد هذه المظالم توجيه الطاقة نحو أفعال أكثر تركيزاً وتفكيراً وعمقاً.
وهذا يبرز قضية حرجة في الحركات الثورية أو الاجتماعية: الحاجة إلى الحفاظ على الروح المعنوية والتزام الجماهير على الرغم من النكسات أو الصعوبات. يجب على القادة إيجاد طرق لتأطير هذه التحديات على أنها جزء من النضال الأوسع، مع التأكيد على أن العقبات حتمية ولكن يمكن التغلب عليها. في الوقت نفسه، يمكن أن تعمل المظالم كجرس إنذار، يكشف عن الروايات المبسطة أو غير الواقعية وهذا يمكن أن يؤدي إلى حوار أكثر جدّية وصدقاً واستناداً إلى الواقع ويقوم على الاعتراف بعدم قدرة طرف واحد في المرحلة الانتقالية على النهوض بها لوحده دون اشتراك حقيقي لكل القوى الوطنية ودون ثقة بالشعب وبقدرة الناس على التغيير والنهوض ببلادها بالدرجة الأولى، وهنا تلعب مسألة «النقد الذاتي» دوراً حاسماً.
في مثل هذه الظروف، تصبح الممارسة الحقيقية والشفافة للنقد الذاتي الأولوية الأكثر أهمية. أما عندما تفشل القوى التي تصل إلى السلطة السياسية في البلاد في ممارسة النقد الذاتي، تنشأ مخاطر أكبر. إذا قامت السلطات بتأجيل معالجة المشكلات وتركتها دون حل، فإن ذلك سيعمق مشاعر خيبة الأمل بين الناس ويعيق التواصل الإيجابي بين السلطات والشعب الذي يفترض أن تعمل السلطات على اكتساب رضاه.
وهنا يجب التعامل بحكمة كبيرة مع مقولة «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، حيث إن هذه ليست وصفة صالحة لكل زمان ومكان! فرغم أنها الطريقة الصحيحة في بعض الحالات، لكنها تنقلب إلى وصفة ضارّة إذا طبّقت في سياق يقتضي الصراحة والمكاشفة والشفافية في إظهار السلبيات أمام الشعب والناس الذين سيكونون عوناً لحلّها بل ولا يمكن حلّها إلّا بمصارحة الناس بها، كما هو الحال في مسألة الانتهاكات التي من شأن الشفافية بمعالجتها السليمة والعادلة أن ترفع الثقة وتطمئن الناس وتكون بحد ذاتها ترياقاً ضدّ التقسيم وضدّ تكرار تفجيرات أخرى محتملة من التي يتمنّاها ويعمل عليها أعداء البلاد. وليكن لنا عبرة فيما قاله ممدوح عدوان منتقداً سلطة المرحلة الأسديّة عندما قال: السلطات تكذب في كل شيء من الأرصاد الجوية إلى الكوليرا، هل يعقل أن يخفي أحد الكوليرا!
إنّ المظالم والأحداث القاسية والدموية يكون لها تأثير أكبر على مجتمع هشّ ومتفكك، خاصة بعد صراع طويل أو حرب أهلية. حتى بعد انتهاء الحرب، غالباً ما تتدخل القوى المحلية والدولية القديمة التي تسعى إلى استمرار الصراع أو زعزعة استقرار البلد المستهدف عبر أشكال مختلفة من الحرب الهجينة. في مثل هذه الحالات، تصبح المرونة النفسية وتمكين الناس من صنع قرارها ومستقبلها واحترام قرارها أمراً بالغ الأهمية. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات وإيجاد حلول يمكن أن تعيد شحن طاقة الناس وأملهم. يجب على القوى الجديدة أن تشارك بسرعة في حوار جاد وصادق، وتقاسم السلطة مع الناس لضمان شعورهم بالأمان بأوسع معانيه، من الأمن على أرواحهم مباشرةً إلى الأمن على غذائهم ومعيشتهم اليومية والأمن في إبداء رأيهم والشعور بحريتهم وكرامتهم. يسمح النقد الذاتي بالاعتراف بالأخطاء والتعلم منها واتخاذ إجراءات لتصويبها، مما يعزز الثقة مع الناس. أما عندما تتجنب السلطات معالجة المشكلات أو تفتقر إلى الشفافية، فإن ذلك يضعف ثقة الجمهور ويخلق فجوة بين الحكومة والشعب. لتعزيز الاستقرار والتقدم، يجب إعطاء الأولوية للتقييم الذاتي الصادق، ومعالجة القضايا بالسرعة التي تحتاجها وتتيحها الإمكانيات الموضوعية لحلّها وهي سرعة قد لا تستطيع الإمكانيات الذاتية اللحاق بها أحياناً وهنا يبرز التحدّي على تطوير العامل الذاتي لكي يرتقي إلى المستوى المطلوب منه موضوعياً. هذا النهج ضروري لإعادة بناء الثقة وضمان التعافي المجتمعي على المدى الطويل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1217