الانتظار وموت القضايا المؤجلة
ترد في كتب التراث جملة تحمل معنى عميقاً في مضمونها وبعداً جمالياً في منطوقها: «تجنبوا الفراغ فإنه يمكن أن يمتلئ بأسوأ أنواع الرداءة». ويقابلها في علم الاجتماع الحديث مقولة هامة تؤكد أن الطبيعة والمجتمع لا يقبلان الفراغ.
تختزل الجملة الواردة أعلاه خوفاً وقلقاً محقين من التحول الجاري اليوم في سورية، خوف من الفراغ، وإعادة إنتاج الماضي، فالفرصة التي صنعتها جموع السوريين؛ مهدَّدة، من الداخل والخارج. من الداخل أولاً، بسبب التركة الثقيلة من الخراب التي وصلت إليها حال البلاد في كل المجالات، والتي يعرف السوريون ما تحتاجه «ضرورة القطع معها» من شجاعة لا تقل عن شجاعة ما أنجزوه ودفعوا ثمنه غالياً إلى حد الآن. ومن الخارج المتربص بهم وببلادهم والذي لم تكن يده بريئة من كل ما مروا به وعانوا منه وما وصلوا إليه من حال. يأتي الخوف والقلق من الفراغ كنتيجة لحالة الانتظار التي تعيشها البلاد وإمكانية استثماره لتدمير ما تبقى من البلاد ومستقبل ناسها وهويتها.
الحضور الواعي
يؤكد النقاش الجاري في المجتمع حاجة البلاد إلى الحلول ومعالجة القضايا المتراكمة. القضايا التي تركتها السلطة السابقة تتراكم دون علاج، والقضايا المستجدة ضمن التحول الذي حدث والذي يقدم فرصة حقيقية وتاريخية لإعادة بناء البلاد والدولة على أسس من العدالة والمصالحة الوطنية الشاملة، وتحقيق الكرامة الوطنية لأبنائها جميعاً.
لم تكن السلطة السابقة بريئة في السياسات التي تبنتها، ولم تكن ممارساتها مجرد تجاوز من «جلاد» كما يحلو للبعض اليوم توصيفه وتناوله في البحث والتحليل. بل كان حرمان السوريون من حقوقهم وإهانة كرامتهم الوطنية والإنسانية سياسية ممنهجة، استخدمت فيها ممارسات مقصودة من التغييب والتهميش والقمع الممنهج التجويع وفظائع أخرى عديدة بهدف ترويضهم. كما عملت على محو الذاكرة الجمعية للناس واستبدال الذكرة الزائفة بها خاصة للأجيال الصغيرة نسبياً والتي لم تعرف تجارب من الحياة سوى ظروف الأزمة والحرب، وصولاً إلى معرفة الذات في علاقاتها وارتباطها بالمكان وفي حضورها ووجودها نفسه، فما يعرفونه «شيءٌ غامض»، لكنّه ليس الحقيقة.
لا يكتمل التحول ويصل إلى معناه ليصير تغييراً جذرياً وحقيقياً مناقضاً للواقع المعاش إلا إذا أعطى للإنسان الذي يعيش فيه ماهيّته الأكثر عمقاً وحضوره الإنساني المبني أساساً على توفير حاجاته الأساسية من الأمان والاستقرار وإنهاء وجوده كـ« آلة متنقلة من المشكلات، منذ شروق الشمس حتّى غروبها» حسب وصف أحدهم، حيث تتحرك مشاكل عديدة كتأمين الغذاء والماء، والكهرباء، التنقّل، المدرسة، الجامعة، المستشفى، السكن... إلخ معه وضدّه، ويتكثف حضوره في حالة من الاستلاب والضياع يعيشها أثناء سعيه لتأمين حاجاته الأساسية، بدلاً من حضوره الحقيقي كإنسان يحيا ويفكر ويبني ويحب... إلخ.
إين نحن؟
تبدو حالة الشعور بالضياع مناسبة لبسط السيطرة والهيمنة على عقول الناس وقلوبهم. يضيع الإنسان غالباً في طرقات غريبة عنه، ولكن عندما يضيع الإنسان في طرق مألوفة صنعتها أقدامه في المقام الأول، يأتي السؤال ليطرح نفسه حول ما يعنيه ذلك؟ إذ ثمة التباس هنا حول مفهوم المكان والضياع. والحديث هنا ليس عن الضياع المكاني الجغرافي، بل عن المكان كجزء مكوّن من الهوية.
أوصلت حال البلاد كثيراً من الناس إلى الشعور بالضياع. تثير فيهم الجغرافية المهدمة شعوراً موحشاً بالضياع، وبكل ما يحتويه معناه من تفاصيل تعثر الخطا والشعور بالخواء والانهيار وتداعي الذاكرة وضعفها... إلخ. يتحول هذا الشعور شيئاً فشيئاً إلى نوع من الاهتزاز في مفهوم الهوية. عندما يتحول إلى نوع من الإهانة الثقيلة للذاكرة وما تحمله من إنجازات ونضالات. وينتج بذلك تشوش في الذهن في ظل واقع مركب يصعب تفكيكه من أجل إيجاد حلول له. تحول هذه الحالة الإنسان من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع والقبول بأي شيء. وتأتي لعبة «الميديا والإعلام» هنا في محاولاتها للتحكم بالوعي، لتستكمل إحداث ما يكفي من الشروخ والتصدعات اللازمة للهزيمة.
«الجغرافيا النفسية»
في كتابه «الجغرافيا النفسية»، يحدّد الكاتب الإسباني «خوليو مونتيفيردي»، من خلال عودته إلى نصّ للكاتب الأرجنتيني «خوليو كورتاثر»، معنى مصطلح الجغرافيا النفسية، ويؤكد أنه العبور أو التجوّل الواعي في المدينة. يتساءل الكاتب عن معنى العبور والتجوّل في المدن. ويجيبُ عن هذا السؤال موضّحاً أنَّ جوهر الأمر يكمنُ في الحضور. فحينما يتنقل المارّة عبر طرق المدينة وشوارعها وأحيائها وأزقّتها وكل ركن من أركانها، يتّضح أنَّ المدينة هي التي تعبرهم وتتجوّل فيهم حقّاً.
يحاول الناس العبور، يمارسون صناعة المعنى الاجتماعي لوجودهم. لتجاوز الفراغ والخروج من الحالة السائلة. وإعطاء حضورهم كمواطنين فاعلين معنى وقيمة.
المطلوب صفر مشاكل
يتفهم السوريون اليوم الحاجة لأخذ نفس، فإصلاح كل هذا الخراب وإعادة بناء البلاد يحتاج وقتاً، ويعرفون أن الطريق لتحقيق ذلك ليس سهلاً وأنه يتطلب جهداً جماعياً، وإرادة قوية، وتضحياتٍ كبيرة لتجاوز الطغيان والعنف والظلم وغيرها من التحديات.
ولكنهم أيضاً يريدون توفير بيئة صحية ليتمكن أهل البلد وناسها من حل المشكلات وإيقاف تفاقمها. فالمطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أخذ زمام المبادرة والعمل على تصفير المشاكل على المستوى الداخلي، وعدم الاكتفاء بالتركيز على ملف العلاقات الإقليمية والدولية، على أهميته، خاصة أنه أمر لا يمكن التحكم به على أية حال. وعدم انتظار حلول قد لا تأتي أبداً.
يؤكد كثير من الناس ضرورة البدء بمعالجة القضايا وتقديم الحلول، ويقدمون تصورات عديدة حول ذلك فأي مبادرة وإن كانت صغيرة تنفع، و«تعمل فرق» مهما يبدو ضئيلاً، إلا أن لتراكمه معنى. حتى لوكان «تنظيم السير» حسب تعبير أحدهم، نريد أن نرى «أشياء ملموسة تتحقق».
أن ذلك يتطلب أيضاً وضع أسس صلبة للحياة السياسية السورية، والعمل الجدي على مشاركة الناس بالسلطة والقرار. حتى يتمكن الناس من الإحساس بحضورهم، ويدركون أنهم جزء من السياسات والبنى الاقتصادية والاجتماعية التي تبني وتساهم في تحويل فضاء البلاد إلى مساحة حقيقية للحرية ومنع كل مجالات استلابه وجعله أقل إنسانية في كلّ شيء.
سورية الجميلة
ليس أمام من يرغب ويهدف فعلاً إلى التغيير سوى تغيير السياسات الممارسة سابقاً، لأن استمرارها لن يؤدي بطبيعة الحال إلا إلى تكرار النتائج نفسها. ويتطلب ذلك من كل القوى الفاعلة طرح برامجها على الناس، وتوحيد جهودهم لبناء سورية جديدة وجميلة كما أراد لها الشاعر رياض الصالح حسين، وأبناؤها الطيبون: «نحن أبناؤك الطيبون الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك أبداً سنقودك إلى الينابيع، وسنجفف دمك بأصابعنا الخضراء ودموعك بشفاهنا اليابسة ونشق أمامك الدروب ولن نتركك تضيعين يا سورية كأغنية في صحراء».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1216