ماركس عن «الثقافة» كضرورة لتجديد قوّة العمل
ما زال التصوُّر الشائع عن «الثقافة» لدى كثيرٍ من الناس هو أنها «تَرَفٌ» منفصل ولا صلة له بالضرورات اليومية المعيشية الأكثر إلحاحاً. ربما يمكن تفسير هذا التصوُّر جزئياً في بلدان كبلادنا التي تعرَّضت لجرعات عالية من الإفقار والتهميش والتدمير والحرب والنّهب والفساد والتخلُّف. ولكن جزءاً من التفسير يكمن أيضاً في ضيق مفهوم «الثقافة» الذي يتمّ تعليمه للنّاس؛ ويجعلها مقتصرةً على «التعليم العالي» مثلاً، أو يربطها بالنُّخَب الاجتماعية والطبقية «المُخمَليّة»، في حين أنّها مفهوم أوسع من ذلك بكثير، كما أنها ليست ظاهرة «صافية» بل ميدانٌ للصّراع الطبقي تعتمل فيها التناقضات. نسلّط الضوء فيما يأتي على أحد جوانب الثقافة في النظرية الاقتصادية-السياسية لماركس.
بالرجوع إلى كتابات ماركس عن قوة العمل والقيمة والعمل الحي، يتضح لنا أنّه كان متنبّهاً للوظيفة الإنتاجية الاجتماعية للنشاط الثقافي. فهو يعرّف قوة العمل بأنها «مجموع القدرات العقلية والجسدية الموجودة في الشكل المادي، الشخصية الحية، لقدرات الإنسان التي يحرّكها كلّما أنتج قيمة استعمالية من أيّ نوع»، مع تحديد قيمتها من خلال قيمة «وسائل العيش الضرورية لإعالة مالكِها». ويجب أن تدعم هذه «الوسائل المعيشية» العاملَ في «حالته الطبيعية كفرد عامل». وهذا يشمل الطعام والمأوى والسكن، فضلاً عمّا سمّاه ماركس «عنصراً تاريخياً ومعنويّاً».
حتى إنّ ماركس أدرج أشكالاً ثقافية شائعة في عصره، مثل «المجلّات» و«الكتب»، جنباً إلى جانب مع السكن والمواد الغذائية ونفقات التعليم باعتبارها «ضروريّات»؛ في الاستبيان الذي ألّفَهُ عام 1880 لفهم حياة وعادات الطبقة العاملة الفرنسية. أيْ إنّ ماركس رأى في الأشكال والنشاطات الثقافية عناصر ضرورية لإعادة إنتاج قوة العمل.
إنَّ عدد ومدى ما يسمّى بالمتطلبات الضرورية للعامل، وكذلك الطريقة التي يتم بها إشباعها، هي في حدّ ذاتها نتاجٌ للتاريخ، وبالتالي فإنّها تعتمد إلى حدٍّ كبير على مستوى الحضارة التي بلغَها مجتمعٌ ما.
ويؤكّد ماركس هذا في المجلد الثاني من «رأس المال» في مناقشته لـ«وسائل الاستهلاك الضرورية» للطبقة العاملة في سياق إعادة الإنتاج البسيط، فيكتب: «ليس مهمّاً ما إذا كان منتَجٌ مثل التبغ، مثلاً، ضرورياً ووسيلةً للاستهلاك من وجهة نظر فيزيولوجية أو لم يكنْ كذلك؛ إذْ يكفي أن يكون وسيلة استهلاك من هذا القبيل وفقاً للعادات».
ويجب تضمين الأشكال الثقافية في هذا الإطار نظراً لتغلغلها في الحياة اليومية، حيث لا يمكننا اعتبار «الحالة الطبيعة للفرد العامل» داخل النظام الرأسمالي بمعزل عن أشكال «صناعة المَعنى» المعبَّر عنها في الظواهر الثقافية التي يتم استهلاكها حسّياً، وتحقيق قيمتها الاستعمالية بقدر ما تلبّي احتياجاتٍ جسدية وعقلية وعاطفية معيَّنة، بما في ذلك «العادات».
إنّ قوّة العمل تصف القدرة على العمل، لا العمل نفسه. ويطلق ماركس على هذا النشاط اسم «العمل الحي»، ويعرّفه بأنّه «إنفاقُ كمّية محدَّدة من العضلات والأعصاب والدماغ البشري، وما إلى ذلك» التي «يتعيَّن تجديدها». إنّ هذا الإنفاق يستنزف «القوى الحيوية» للإنسان، وهو المصطلح الذي استخدمه ماركس في «رأس المال» لتسمية خزّان الطاقات البدنية والعقلية الذي يُستَنزَف خلال البذل الملموس لقوة العمل. «القوى الحيوية» هي ما يمتصّه رأس المال بوصفه «مصاصَ دماء» -وفق التشبيه الشهير الذي استخدمه ماركس- محوّلاً العمل الحيّ إلى عمل ميت هو «رأس المال».
يقول ماركس عن يوم العمل في «رأس المال»: «في غضون 24 ساعة من اليوم الطبيعي لا يستطيع الإنسان أن ينفق سوى كمية معينة من قوته الحيوية. وعلى نحو مماثل، لا يستطيع الحصان أنْ يعمل بانتظام إلا لمدة 8 ساعات في اليوم. وخلال جزء من اليوم يجب أن تستريح القوة الحيوية وتنام؛ وخلال جزء آخر يجب على الإنسان أن يلبّي احتياجات جسدية أخرى، لإطعام نفسه وغَسلها وكسوتها. وإلى جانب هذه القيود الجسدية البحتة، يواجه تمديد يوم العمل عقبات مَعنويّة [أو أخلاقية]؛ يحتاج العامل إلى الوقت لتلبية حاجاته الفكرية والاجتماعية، ويتوقّف مدى وعدد هذه الحاجات على المستوى العام للحضارة».
نحو تعريفٍ اقتصاديّ-سياسيّ للثقافة
إنّ إدراج ماركس الصريح للأشكال الثقافية ضمن المحدّدات «التاريخية» و«المعنوية/الأخلاقية» و«الحضارية» لقوة العمل باعتبارها «مواد استهلاكية» يشير إلى الخصوصية التاريخية لوظيفة الثقافة في الإنتاج الاجتماعي. و«الحاجات» البشرية الروحية كما المادية ليست ثابتة، بل تتطور وتتكاثر مع تطوّر القوى الإنتاجية للمجتمع. إنّ الثقافة تعمل أيضاً على المستوى الإيديولوجي، فتضفي الشرعية على إعادة إنتاج علاقات الإنتاج. ويساهم هذا العنصر الإيديولوجي في إعادة إنتاج قوة العمل بقدر ما تشتمل الإيديولوجية على مكوّنات عاطفية ونفسية وجسدية تشكّل ما يسميه ماركس «الحالة الطبيعية» للعامل. إنّ إنتاج قدرات الشخص كقوة عمل هو في حد ذاته مشروعٌ مادّي وإيديولوجيّ يتشكّل بالطريقة التي يجعل بها المجتمع الرأسمالي العمل المأجور شرطاً مسبقاً ضرورياً للبقاء. ومن هنا جاء تعريف أحد المنظّرين الماركسيين للثقافة بأنّها «تسميةٌ لتلك العادة التي تشكل قوة العمل وتخضَعُها وتؤدِّبها وتسلِّيها وتؤهِّلها».
كما فسّر بعض المنظّرين الماركسيين مفهوم ماركس عن «العناصر التاريخية والأخلاقية» هنا بأنها تشير إلى الصراع الطبقي أيضاً. فإن المعايير الاجتماعية تشكل مواقع للصراع بين الطبقات المهيمنة والطبقات التابعة، وهو ما يشكل أهميةً حاسمة كجزء لا يتجزأ من «حرب المواقع» التي تحدّث عنها غرامشي. إنّ المعاني والتأثيرات الضمنية في الثقافة والتي تساهم في إعادة إنتاج قوة العمل قد تعيد صياغة علاقات الإنتاج بكلّ المعاني، ولكن هذه المعاني والتأثيرات والفوائد المترتبة عليها قد تتحدى أيضاً النظام الذي يتطلّب إبقاء العمل المأجور واستغلاله، وبهذا المعنى يمكن القول إنّ هناك ثقافة ثورية يمكن إدخالها في دورات تجديد قوّة العمل لكي تتحدّى نظام العمل المأجور بحد ذاته وتناضل لتغييره جذرياً – للقضاء على الرأسمالية وبناء البديل الاشتراكي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204