الحلم بحياة كالحياة
تكمن البطولة التي تكاد أن تصبح أسطورة عند الشعب الفلسطيني في إنسانيته بالذات، في تعلقه بأرضه وعشقه لترابها وزيتونها، في رغبته بالتعلم والذهاب إلى المدرسة والجامعة، في إصراره على الحياة وتمسكه بها رغم كل المصائب والمصاعب التي يمر بها، وحتى في استشهاده إذ ينتصر الفلسطيني للحياة بالموت في سبيلها.
في أيلول، ينطلق العام الدراسي في فلسطين كما في غيرها من مناطق عديدة في العالم. أفواج كاملة من الأطفال في غزة لن تتمكن من استكمال تعليمها للعام الثاني على التوالي. ولم تتوقف آلة القتل الصهيونية عن ارتكاب المجازر الجماعية التي أصبحت روتيناً يومياً تتناوله وسائل الإعلام، ولم تستثن أحداً من الشيوخ والنساء والشباب والأطفال.
تسببت الحرب على غزة في توقف كل صور الحياة فيها، وفي بعض مناطق الضفة الغربية أيضاً، حيث جرى تدمير البيوت والمستشفيات والمقار الحكومية، وعلى رأسها المدارس والجامعات. وما زال شلال الدم ينزف، بعد ارتقاء آلاف الضحايا، واستشهاد آلاف الطلبة والمدرسين، وما زالت أطنان من القنابل تنزل على الغزيين بلا رحمة، بعد هدم مئات المدارس التي أصبح معظمها ملاجئ للنازحين ولمن فقدوا بيوتهم وأماكن سكنهم.
حلم الدراسة
يؤكد الناطق باسم وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في تصريح له: «حُرم 630 ألف طالب من حقهم في التعليم في المدارس على مدار عام دراسي، بالإضافة إلى 78 ألف طالب في الجامعات. كما حُرم 39 ألف طالب من أداء امتحان الثانوية العامة».
حيث دمر جيش الاحتلال منذ بداية الحرب أكثر من 250 مدرسة في شمال القطاع. كذلك، دمّر خمس جامعات مركزية هي، «الإسلامية» و«الأزهر» و«الأقصى» و«فلسطين» و«الإسراء»، فضلاً عن عشرات الفروع في شمال القطاع وجنوبه. ويقدّر مصدر في وزارة التربية والتعليم، لبعض وسائل الإعلام، أن إمكانية استعادة الحياة التعليمية في غزة في حال توقّفت الحرب، تُعد أمراً مستحيلاً، حتى بعد عام كامل من الآن، بالنظر إلى تحويل كل المدارس المتبقّية، سواء منها الحكومية أو تلك التابعة لوكالة «الأونروا»، إلى مراكز إيواء تسكنها الآلاف من الأسر التي فقدت منازلها.
فبالإضافة إلى الاستهداف المتعمّد للكوادر التربوية، ثمة استهداف يومي لمراكز الإيواء، والتي ليس للأهالي بديل عنها بعد تهدّم بيوتهم، ولم تسلم حتى وكالة «الأونروا» وموظفوها من القصف، فالعدو لا يقيم وزناً لأيّ جهة دولية، وقد عكست التحقيقات التي نشرتها صحيفة «هآرتس» في وقت سابق، وجود صلاحيات مطلقة للجنود في إطلاق النار. حتى أنهم أحياناً يطلقون القذائف والرصاص على المنازل بغرض التسلية، أو للاحتفال بمناسباتهم الشخصية من خلال تفجير المنازل المأهولة على رؤوس ساكنيها، ويأخذون الصور التذكارية مع كل جريمة يقومون بها. وقد قصفت الطائرات الحربية 11 أيلول مركز إيواء في مخيم النصيرات وسط القطاع، سقط فيه 40 شهيداً وجريحاً، وهو مدرسة تابعة لوكالة «الأونروا»، وقالت الوكالة «إن ستة من موظفيها قُتلوا بعد غارتين جويتين أصابتا المدرسة الواقعة وسط غزة، التي تؤوي نحو خمسة آلاف نازح» وأكدت في بيان لها: إن «من بين القتلى مدير مركز الإيواء وأعضاء آخرون في الفريق يقدمون المساعدة للنازحين»، وأن الهجوم يمثل «أعلى حصيلة قتلى بين موظفينا في حادث واحد التحقوا بـ 220 موظفاً قتلوا في ظروف متباينة منذ بداية الحرب في غزة في تشرين الأول الماضي»، مضيفة أنها المرة الخامسة التي تتعرض فيها هذه المدرسة بالتحديد للقصف خلال الأشهر الـ 11 الماضية. وعلّق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش على الحدث قائلاً في تصريح صحافي: إن «القتل بلا نهاية وبشكل المنطقي منذ بداية الحرب، أدى إلى خسارتنا لأكثر من مئتين من كوادرنا».
مدرسة في خيمة
لا يسعد الأمهات موت أبنائهن واستشهادهم، ولا توقفهم عن الحياة، أو معاناتهم فيها. تحلم كل أم أن يكبر صغيرها ويتعلم ويبني أسرة ويعيش سعيداً. ولكن الحرب حرمت أبناءهنّ من مقاعدهم الدراسية، وأصبح مستقبلهم مرهوناً ببعض المبادرات التعليمية هنا وهناك. تؤكد إحدى الأمهات في غزة: «لقد نسى طفلاي القراءة والكتابة وحتى الأحرف التي تعلماها، نرجو أن ترجع المدرسة، هذا حلمنا جميعاً». بينما تقول أم أخرى عن ابنها: «كان في الثانوية العامة عندما بدأ العدوان، وفجأة وجد نفسه يقف في طوابير الحصول على الماء والطعام، فقرر العمل ليساعد في توفير مصاريف عائلته وعدم الالتحاق بمقاعد الدراسة حال عودة التعليم».
تنقل وسائل التواصل فيديوهات لمبادرات تقوم بها بعض الكوادر التعليمية في غزة، في محاولة لتقديم بعض المساعدة لمن حولهم. فقد حولت المعلمة زينب علوان خيمة نزوحها إلى مدرسة لتعليم الأطفال اللغة الانكليزية في دير البلح، وأقامت المعلمة إسراء أبو مصطفى فصلاً دراسياً على أنقاض بيتها المدمر لتعليم الأطفال في خان يونس، وآخرون قاموا بمبادرات شبيهة، وهكذا بدأ بعض الطلبة يتلقون بعض التعليم بشكل غير رسمي في خيمة النزوح.
لا يشعر الطفل في الخيمة التي تحولت إلى مدرسة بالراحة كثيراً، ليس لأنه لم يرتدِ الزي المدرسي ولم يشترِ القرطاسية فقط، مثل كل عام، ولكن لأن الخيمة تفتقر إلى أبسط الأشياء التي تحتاجها عملية التعلّم. ومع ذلك تقدم هذه الخيمة الدراسية، التي تحاكي المدرسة، لبعض الأمهات، شيئاً من الأمل، تقول إحداهن: إنه «منذ بداية الحرب على غزة في السابع من تشرين الأول، توقف التعليم النظامي وتغيب الأطفال خلال هذا العام عن الدراسة». وتضيف: «فرحة الأطفال بذهابهم إلى المدرسة في الخيام، ليست كفرحتهم عندما كنا نستقبل العام الدراسي الجديد قبل الحرب. لقد أرسلناهم إلى الدراسة في الخيام، حتى لا ينسوا ما تعلموه».
كيف الهمّة عالية
أدهش أطفال فلسطين العالم. ففي أحد الفيديوهات المتداولة عن مدرسة في الخيمة، تسأل المعلمة الصغار بصوت عال: «كيف الهمّة؟» فيجيبونها بصوت جماعي ومن خلال أغنية: «الهمة عالية»، ويكمل الأطفال أنشودتهم: «يا أقصى يانور العين، عاشت... عاشت فلسطين»، يؤكد هؤلاء الصغار وغيرهم من الأطفال في مشاهد أخرى أن الشعب الفلسطيني في حياته اليومية، ليس شباباً فدائياً يعشق الموت فقط، ولا فتية يستهويهم قذف الحجارة، إنه شعب لم يترك له العالم خياراً سوى أن يحمل البندقية ويقاتل لأنه السبيل الوحيد أمامه ليتحرّر من الاحتلال، ويحيا أسوة ببقية شعوب الأرض، فهو جدير مثلها بالحرية والحياة. بل قد يكون من أكثر شعوب الأرض حبّاً للحياة وانتصاراً لها، وإلّا لاستسلم منذ زمن طويل لوحشية جيش الاحتلال المرعبة.
الحياة تصنعهم
يقول محمود درويش: «ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة، وأن نموت على طريقتنا». يعتقد الاحتلال الصهيوني من خلال إمعانه في الإجرام والبطش وقتل الأطفال أو حرمانهم من أبسط حقوق الحياة، أنه سيتمكن من تحقيق انتصاره الوهمي، ولكنه واهم، فالحياة تؤكد أن الظروف التي يمر بها الإنسان في مشوار حياته تصنع طريقة تفكيره ونمط عيشه إضافة إلى خياراته، وليس الفلسطيني، طفلاً كان أم بالغاً خارج هذه المعادلة. تثبت الكثير من المعلومات والتفاصيل القادمة من غزة صمود أبنائها وتفردهم، وهم يثبتون للعالم في كل يوم بطولة من نوع آخر، بطولة إنسانية حقيقية، في مواجهة الموت، وستصنع الظروف من أطفالهم رجالاً قادرين على تحقيق الانتصار والحياة كما يريدون.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1192