في لقاء النقيضين: حول وهم «التقارب»
المرحلة الراهنة بما تمثّل من انتقالٌ نوعيٌّ من واقع «حضارة» (تتحوّل إلى حالة بربرية تعبّر عن توصيف إنجلس بكونها مرحلة ما قبل التاريخ) إلى واقع آخر (حضارة صناعة التاريخ)، فيها ملامح نوعية، من الضروري استمرار تحديدها والتعمّق في مضمونها، ما يسمح مثلاً بتعرية المقولة المؤامراتية بـ«تقارب واتفاق» القوى المتصارعة عالمياً.
في مقولة «التقارب والاتفاق»
يتغيّر المزاج العام، وتحديداً في منطقتنا، بسببٍ من حدّة وتكثّف الصراع العالمي «الانتقالي» فيها بين موقف «التهليل والنشوة» لقوة المقاومة وضرباتها للكيان، على اختلاف مصادر تلك الضربات وقواها، كالفلسطيني والعراقي واللبناني واليمني، وبين موقف يطرح فكرة «التقارب والتسوية والتنازل» بين القوى المتصارعة. ومن اللافت أنّ أصحاب الموقفين هم الأشخاص أنفسهم (أو القوى نفسها). هذا الانتقال واضح وفاقع، ويزداد مع كل ارتفاع للتوتر، ويعكس إرباكا سياسياً ناتج عن الإرباك «المعرفي»، ويمكن تكثيف قاعدة هذا الإرباك في فهم فكرة «النصر»، وبالتالي فهم طبيعة التناقض الحامل للصراع، حيث تشكّل الحرب «العسكرية» التعبير المباشر عنه، ولا تختصره ولا تختزله. وطبيعة التناقض أخذت ولا تزال وستأخذ الكثير من التحليلات، ولكن صار من الواضح، حتى ضمن الأوساط الغربية، أنه انتقال حضاري، عالمي الطابع، وبالتالي فهو متزامن ليس فقط بالمعنى الجغرافي، بل متزامن ما بين المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والوعي...
حول الانتقال الحضاري مجدَّداً
الانتقال الحضاري هو تجاوزٌ للمجتمع الطبقي الذي استنفد هوامشَ مناورته التاريخية، وصار النموذج الحالي من المجتمع الطبقي، أي الرأسمالي مدمراً للطبيعة والانسان معاً بالمعنى العملي، كما تنبّأت كلاسيكيات الماركسية نظرياً. وتتَّبِعُ القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها نموذجاً تدميرياً هجيناً، فإضافة إلى الحرب، التي وبسبب التوازن العالمي، تحصل مكبوحةً، فإن هذه القوى تدفع باتجاه نموذج ما بعد المجتمع وما بعد الإنسان، بانيةً ذلك على أزمة العقل والمجتمع على قاعدة تفكك وتعطل آليات الرأسمالية وانغلاق أفق الحل، منتجةً نموذجاً من اللاعقلانية في نفي العقل ونفي موضوعه، أيْ الواقع الموضوعي، والعقل المقصود العقلُ الاجتماعي، والواقع هو المجتمع نفسه، أيْ البشر صانعي مستقبلهم بنشاط مشتركٍ إبداعي تطوّري لسيطرتهم على واقعهم، وضمناً أنفسهم والطبيعة. ولهذا فإنها تتراجع عن كل المنجز الحضاري الإنساني تاريخياً، وضمناً منجزات العصر الثوري وما ظهر معه من دول ومستويات تنظيم اجتماعي، والمنتج العقلي والنفسي والأخلاقي والسياسي لتلك المرحلة كأعلى مستوى وصل إليه التنظيم الاجتماعي، كاختراق لحدود الرأسمالية على قاعدة القطع مع الاستعمار المباشر ضمن إجراءاتٍ اشتراكية على اختلاف جذريّتها في البلدان المختلفة.
المبادرة بين موقعين
إذا كانت القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها تبادر إلى الحرب والتدمير، وهذا هو سقفها الأعلى، فإن القوى في الموقع النقيض لها مبادرتُها، والتي تتسع هوامشها وتتطور لتطال مستويات جديدة من الصراع. ولكن لم تصل بعد إلى السقف الأعلى للجوهر التاريخي للانتقال كانتقال حضاري يتطلب تجاوز الانقسام الاجتماعي من خلال تجاوز الاقتصاد البضاعي والسوق وتقسيم العمل بين ذهني وعضلي.
ولهذا فإنّ مبادرة القوى التي تواجه التدمير، وحاملها الأساس روسيا والصين كوريثتين للتجربتين الأكثر جذرية والأكبر بالمعنى الجيوسياسي، بدأت بالتطور من الّلجم العسكري للتدمير، في توظيف للمنتج التحرّري في القرن الماضي كالردع النووي والسلاح الصاروخي بشكل خاص، ربطاً بالحفاظ على جهاز الدولة وإدارة المجتمع. هذا الجهاز نفسه هو نتاج للمرحلة السابقة الثورية نفسها والحفاظ على المجتمع يتطلب الحفاظ على هذا الجهاز، وتطويره ربطاً بالأمن الغذائي والصحي والطّاقي لتلك الدول. ولكن، المبادرة تلك لا تحمل فقط طابعاً دفاعياً صافياً، بل هجومياً أيضاً. وهذا يتمظهر في توسيع الوزن السياسي والاقتصادي والعسكري عالمياً، وضرب الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للإمبريالية. وهذا التطور لم يحصل بين ليلة وضحاها بل أخذ عقدين من الزمن منذ تسجيل اندفاعة روسيا مع مطلع القرن الحالي.
وهذا التطور الذي يعتبره البعض «بطيئاً» هو سريع نسبة للتاريخ بشكل عام، وهو يتسارع مع كل تصاعد في الأزمة، ويتطور في عمق واتساع طابعه الهجومي. ولكنه يصبح أصعب مع اقترابه من جوهر الانتقال لأن الإجراءات المطلوبة تتطلّب تحوّلات في تلك الدول نفسها. وهذا التوتر بين الانتقال الداخلي وبين الحفاظ على التماسك الاجتماعي وحماية جهاز الدولة في ظل الهجوم الإمبريالي الهجين يجعل من عملية تطوّر الهجوم تأخذ هذا الشكل المعقَّد و«الحَذِر» والعقلانيّ والاستيعابيّ.
هذا التعقيد مع الدقة والتوازن بين التحوّل على مستوى الداخل والمستوى العالمي أخذاً بعين الاعتبار نضج القوى الحاملة له بالمعنى الذاتي، على مستوى التنظيم والوعي، وليس الظروف الموضوعية المطلوبة فقط، وهذا هو الشرط الحاسم، يجعل الصراع يحمل طابع «الصبر الاستراتيجي» الذي يهزأ منه البعض.
لقاء المتناقضات
ومن الممكن أن نضيف نقطة منهجية تحتاج للبحث اللّاحق ألا وهي أن اندماج التناقضات التي ذُكِرت في مواد سابقة، أيْ اندماج المستوى الإنساني العقلي مع الجسدي مع السياسي والاقتصادي-الاجتماعي والطبيعي والتكنولوجي، إلخ، وتقاربها من بعضها بعضاً على مستوى ضرورة حل تلك التناقضات بشكل متزامن يقتضي أنّ النقيضين التاريخيَّين (اللاطبقي-الطبقي) اقتربا بعضهما من بعض بشدّة. هذا الاقتراب يحصل ضمن الوحدة، وبشكل أدق، لأن النقيضين يحضران في داخل كل مجتمع وكل دولة وكل جهاز سياسي واجتماعي وكل عقل، ولذلك فإن هذا التمظهر يؤدّي إلى وهم ظاهري حول «تعاونهما التّسوَوِي» في الصراع، بينما في الجوهر هناك صراع حياة أو موت، بمعزل عن البرنامج المعلَن لدى الأجسام السياسية والاجتماعية الفاعلة. ولكن كل تلك الأجسام هي تحت ضرورة التطور.
تطوير الهجوم
إن كلَّ من ينتقد المشهد الراهن عليه أولاً وأخيراً الدفع في تطوير الهجوم من خلال تطوير المستويات المعرفية والوعي والتنظيم والسياسة، من أجل توفير ظروف الانتقال الحضاري القادرة وحدها على وقف الواقع البربري والهجوم البربري المبني عليه، وليست فكرة الجبهة الحضارية إلّا العنوان الكبير لذلك الجهد. أمّا النُّواح والتباكي من موقع «المبدئية الطهرانية» فهو موقع العاجز من خارج التاريخ ومن خارج دينامية الصراع. وهذا مفهومٌ طالما أن وعي الاغتراب ليس قائماً وليس حتى مطروحاً أمام القوى التي تتكلم على تغيير الواقع، إذْ كيف يمكن لتلك القوى تجاوز واقع الاغتراب الذي هو نفسه جوهر عملية الانتقال الحضاري ومشروع ماركس كله؟! وعلى العكس من التفكير والفعل الحي الإبداعي (في تطوير الهجوم)، يقوم المنتقدون بتحويل الظواهر والقوى إلى وقائع مطلقة لا حياة فيها ولا صراعَ داخلياً يحكمها. وللمتمركسين يمكن القول: ونِعْمَ العقلُ الجدليّ الذي تحملون!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1193