الولادة المبكرة للتناقضات.. إجهاض التاريخ والتيار التدميري

الولادة المبكرة للتناقضات.. إجهاض التاريخ والتيار التدميري

كما صار واضحاً فإنّ انعدام المخارج والصيغ أمام النظام المنقسم طبقياً للحفاظ على هذا الانقسام، في الوقت الذي وصلت فيه التناقضات على مختلف المستويات إلى حافة تهديد النوع والحضارة ككل، إنّما يدفع إلى مسار تدميري متطرف. وهنا نظرة في منهجية التدمير للإجابة المبكرة على التناقضات، وإجهاضها.

استعانة التدمير بالقاعدة الموضوعية المادية

ظهر مبكراً أن ممارسة التدمير لدى العقل والقوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها لا تسير خارج التناقضات الموضوعية وقواها الممثلة لها، أي أنّها لا تسير بشكل إرادوي بمعزل عن التناقضات الموضوعية التي تتطلب الحل على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والعقلية-الروحية، إلخ. وليست الثورات الملوَّنة المضادة إلا توظيف القوى الاجتماعية التي تعبر عن تلك التناقضات لمصلحة تيار التدمير. فالشعارات التي تحملها تلك الثورات من «حب الحياة» إلى «الديمقراطية» وغيرها كانت دليلاً مبكراً على توظيف جوهر التناقضات -وتحديداً (إلى جانب القضايا الاقتصادية والسياسية المباشرة) قضايا الاغتراب وما تحمله من سعي للفعالية الفردية وإثبات الوجود- توظيفاً لمصلحة التفتيت وضرب الدول ووحدة المجتمعات. والبحث المعمّق في تطور هذا التوظيف لجوهر التناقضات التي تحتاج إلى حلّ -من قضايا الهوية ومسائل العائلة والعلاقة بين الدولة والفرد، والمجتمع والفرد بشكل عام، وقضايا تعظيم دور الفرد، وغيرها- يُظهر مساراً اعتُمِدَ دائماً لدى القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها؛ وهو التفجير المبكِر للقضايا بهدف إجهاضها. وهذا ما سنمرّ عليه تالياً، ولكن ما يهمّنا في هذا القسم هو أنّ مسار التدمير يعتمد على التناقضات الموضوعية، ولا يجري فرضه اعتباطياً وقسراً (بمعزل عن الأدوات القسرية التي تستفيد منها القوى التي تحاول تثبيت هيمنتها). وبالتالي فإن المشروع النقيض للحفاظ على الحياة والحضارة البشرية يفترض حلاً موضوعياً لتلك التناقضات، لا دفاعاً يعتمد أدوات النظام القائم وقاعدته التي تعظّم من تلك التناقضات. وفي قلبها تغيير القاعدة المادية للمجتمع المنقسم تاريخياً، الذي هو المجتمع الطبقي طوال تاريخه، والانقسام بين الفرد والمجتمع تحت القضية الفلسفية «انقسام الذات والموضوع»، وما يعنيه ذلك من دمجِ الفرد بالمجتمع وحل قضية الاغتراب، وتحويل الفرد (الجماعة) إلى كيان فاعل تاريخي سياسي، بالضد من نمط حياة الاستهلاك والسلبية التاريخية، وتحويل مسألة تقرير المصير إلى قضية ممارسيّة يومية، واقتصادياً يتطلّب ذلك تجاوزاً للاقتصاد البضاعي الذي هو اليوم النسخة الراهنة من نظام الانقسام الطبقي.

الولادة المبكرة والإجهاض وحساسيتها

هذا التعقيد في المشهد، أي إذا كان «الحل المبكر»/«التفجير» لتلك التناقضات يعني إجهاضها، فإن ذلك لا يعني أن جوهر تلك القضايا غير حقيقي وموضوعي. وبالتالي هذا لا يفترض أنّ على المشروع النقيض أن يعادي القضايا المطروحة والتي يعمل العقل والقوى التدميرية على تفجيرها، بل أنْ يدفع إلى حلّها ولكن دون أنْ ينكر السياق التاريخي القائم، أيْ دون أن يتجاهل تجهيز الواقع الاجتماعي لإمكانية حل تلك التناقضات التي لا يمكن أن تجري ولادة حلها سريعاً، ويعطيه خطة زمنية دقيقة حول متى يجب أن يطرح حل تلك التناقضات على جدول الأعمال. هذا يعني أولاً حرمان التيار التدميري من القوى الاجتماعية-التاريخية التي يوظّفها لصالح التدمير وتوظيفها النقيض لصالح مشروع البناء الحضاري. ولكنه يعني أيضاً أن يستمد من الحركة التاريخية مصادر قوى مضاعفة هي التي ستؤمن القدرة على الصمود، وهزيمة التيار التدميري.

أمثلة على التفجير المبكر للتناقضات

الواقع يعجّ بالأمثلة حول التفجير المبكر للتناقضات من قبل التيار التدميري، وهي ما سميناه بـ«خطر الشيوعية المبكرة» في مادة سابقة (عن «الشيوعية المبّكرة» وتموضعها الفاشي البربري). ومن الأمثلة مثلاً قضية «تدمير الدولة» على عكس ما طرحت الماركسية حول فكرة «اضمحلال الدولة» (أي عندما تنتفي الحاجة إليها)، وقضية «تدمير العائلة» أيضاً على عكس ما طرحت الماركسية حول مسألة تجاوزٍ «طبيعي» للعائلة ككيان اجتماعي تاريخي. وقضايا الهوية الفردية، التي هي خارج الهويات المطلقة والثابتة، بل اعتبار الهويات الفردية والاجتماعية مسائل تاريخية متحولة ككل ظواهر الواقع. فعلاً هي قضايا «حساسة»، ولكنها اليوم قضايا مطروحة موضوعياً ولا يمكن الهرب منها. فمثلاً قضية الدولة تعني التنظيم الاجتماعي وكيفية إشراك الجماهير في إدارتها، كقضية لينينيّة مركزية، وبالتالي في معناها النفسي والعقلي والروحي تعني تحويل الأفراد إلى كيانات سياسية تاريخية فاعلة على الضد من الاغتراب وقتل الفعالية العقلية (العقلانية)، الذي مصدره النمطُ الانقسامي بين الفرد والمجتمع، وهذا الإشراك لا يعني فقط تجاوز الإنتاج البضاعي في بعض قطاعات الإنتاج بل تجاوزه فيها كلها، وتحويل لتنظيم العمل ونمط الحياة ككل، وهنا يمكن العودة مثلاً إلى بعض كتابات ستالين في نقاش قضايا الإنتاج البضاعي في الاتحاد السوفييتي، والتي حاول فيها الإشارة إلى التناقض المركزي، أي التناقض بين العمل الروحي والعمل الجسدي (الذي هو أحد تبعات الانقسام الطبقي التاريخي)، الذي يطرح نفسه علينا اليوم بشكل ملحّ، وفي نقاشاته تكلّم ستالين عن بقاء ذلك التناقض في الاتحاد السوفييتي ضمن حدود موضوعية كالفصل بين العمال في المعمل مثلاً وبين المدراء في ذلك المعمل. بالتالي، فإن قضية الدولة مطروحة على جدول الأعمال، ولكن ليس خارج سياق تحضير القوى البشرية لحل قضية الدولة. على هذا المستوى من تحويل كل التنظيم الاجتماعي-السياسي يجب النقاش بغاية تجاوز النمط الحالي من الحياة الاستهلاكية والاغترابية والمؤسَّسة للتدمير الراهن العقلي والجسدي والسياسي والاجتماعي. أما قضية العائلة، فإنّ الواقع الاقتصادي والاجتماعي والأمني-السياسي الراهن يقتلها، وليس الماركسيّون الكلاسيكيّون هم من قتلوها، ومجرّد نظرة سريعة على حالة العائلة اليوم، من قضية عدم القدرة على إنشاء عائلة بسبب التشظي بين الأفراد، الذي هو ناتج عن اغتراب الفرد عن نفسه، وعن غيره، فكيف به أنْ ينجح في أن يتلقي مع غيره في علاقة لها روابطها الروحية والنفسية إذا كان هو نفسه فاقداً لتعريفه لنفسه ولحاجاته الموضوعية، لا الاستهلاكية، ما يمنع بالتالي من التقاء الأفراد على قضية حياتية عامة تجعل من علاقتهم قابلةً للحياة، وهذا ليس فقط على مستوى العائلة بل الصداقات أيضاً وكل علاقة اجتماعية أخرى. إضافة إلى ذلك هناك الأزمة الاقتصادية التي تمنع إمكانية إنشاء أسرة، ومسألة إتاحة الوقت لتربية الأطفال التي صارت تقوم بها اليوم «دور الحضانة» على حساب الأسرة، وقضايا تشظية العائلة القائمة أصلاً في واقع التهجير والمنافي التي تعيشها كل شعوب العالم في ظل التحوّل في طبيعة الطبقة العاملة في العالم، وصيرورتها فعلاً طبقة عالمية عابرة للحدود. وقضيّة الهويات تحتاج إلى نقاشٍ منفصل لا يَسمح به هنا ضيقُ المساحة.

خلاصة أولية

إنّ الدولة والعائلة كأمثلة تقدّم دليلاً على مستوى التناقض الذي وصلته الظواهر، والتي يعمل التيار التدميري على طرحها المبكر، وبالتالي تفجيرها؛ إجهاضها. ولكن هذا يتطلب أن يضعها المشروع النقيض على جدول الأعمال، وفي مواجهة تيار التدمير العالمي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1186
آخر تعديل على الأحد, 04 آب/أغسطس 2024 21:52