الذكاء الاصطناعي والسير نحو الجهل
د. مروة صعب د. مروة صعب

الذكاء الاصطناعي والسير نحو الجهل

روجت الأفلام الهوليوودية القديمة للمستقبل المتطور المعتمد على التكنولوجيا، وللإنسان المتطور والذكي الذي سيبني هذا المستقبل. تنبّأَ المشاهدون وانتظَروا المستقبل الذي سيعكس عليهم حياة زاهدة ورفاهية. ومؤخراً حصل تطور كمي بالذكاء الصناعي، مع بروز chatgpt وغيرها من المحركات التي تستطيع الإجابة عن أسئلة في المجالات كافة. خصَّصَ التعليمُ للذكاء الاصطناعي قسطاً وفيراً من أموال الأبحاث والباحثين لدراسة انعكاس ودور الذكاء الاصطناعي فيه وفي بناء تلاميذ اليوم والغد.

هل حقاً تلعب التكنولوجيا دوراً فعالاً في التعليم؟

لا شكّ أن التكنولوجيا ساعدت في تنظيم التعليم وسمحت لنسبة أكبر من التلاميذ بالوصول إلى المعلومات. ولكن تشوب استخدامَ التكنولوجيا في التعليم شوائبُ متعددة. أدخلت التكنولوجيا قدرات جديدة مثل استخدام الأجهزة والإنترنت وتقديم الدرس والمعلومات بطريقة عملية غير جامدة، وسمحت بتقدم بسيط في طرق البحث وتحليل النتائج وعرضها. ويتم عرض الأبحاث العلمية على منصات ومحركات تُمكّن الصروح العلمية والبحثية والتلاميذ من الوصول إليها بطريقة أسرع وأكبر. كان هذا التقدم بسيطاً لأنه لم يغيِّر في المشكلة الأساس في التعليم الحالي، وهي تقويض قدرة وتقدم الطالب إلى ما يجب ويمكن أن يدرس. التعليم في تركيبته الحالية لا يسمح للطالب باستغلال كامل قدراته ولا بتطوير وعيه وشخصيّته بدرجة كبيرة، لأنه يضع قوانين وتعريفات وحدوداً للمعرفة ولشخصية الطلّاب وتطوّرهم الإدراكي. فإلى اليوم ما زال النقاش غير محسوم حول الطرق المثلى والفضلى للتعلم، وإلى اليوم تحاول الصروح العلمية والبحثية الترقيع هنا وهناك لإيجاد أو لتكوين نظام تعليمي جيّد بأدنى حد. فقد عكست فترة انتشار كورونا والانتقال من التعليم المباشر إلى غير المباشر هشاشةَ النظام التعليمي في العالم أجمع. ليس فقط لأنه لم يستطع التأقلم مع واقع جديد، بل لأنه أثبت أن المعلومات وطرق التعليم المتَّبعة لم تعكس وعياً أو حتى معرفة بالأمور العامة. واستغل رأس المال هذه الواقعة فقدَّم نموذجاً عن الذكاء الاصطناعي لكي يقوم بما لم تستطع الصروح التعليمية والبحثية فعله. وهنا تكمن الشائبة الثانية، لكون جميع هذه الإمكانيّات مرتبطة بالقدرة الشرائية للتلاميذ. فحتى لو أنه يمكن الوصول إلى العديد من الأبحاث أو استخدام التكنولوجيا، فإنّ هذا الوصول مدفوع وغير مخصَّص للعموم. أي أنّ التكنولوجيا، كما أيّ أداة تستخدم من قبل الرأسمالية، هي ربحية أولاً وأخيراً. وأثبت انتشار الوباء وضرورة وسرعة الانتقال إلى التعليم عن بعد أنّ النماذج التعليمية المتَّبعة في العالم لم تؤدِّ دورَها المفروض مِن تعليم أو رفع إدراك ومعرفة التلاميذ. وأن الذهاب إلى استخدام التكنولوجيا كحلٍّ لمشكلة التعليم لم تعطِ مردوداً جيّداً. فبدلاً من أنْ تحقق التكنولوجيا المروَّج لها الاستفادةَ المفترضةَ منها، كانت عائقاً أمام الطلاب والأساتذة والصروح التعليمية. فالمشكلة ليست في العقبات في استخدام التكنولوجيا فقط، بل في أن النظام التعليمي غير مرنٍ ولا يسمح، أو غير مخصَّص، لكي يكون عن بعد.

ذكاء الذكاء الاصطناعي

عندما كنا نشاهد الأفلام الهوليوودية التي روَّجت لمستقبلٍ متطوّر لم نكن نعتقد أننا كبشر ذاهبون إلى التخلف. كنا نعتقد أننا سنصبح أذكياء ونركز قدراتنا الذهنية والجسدية على بناء حياة سهلة ومريحة. هذا الوهم يختفي مباشرة بعد انتهاء الفيلم والعودة إلى الواقع الذي يجسّد حاضراً ومستقبلاً أصعب من الذي كان، من حيث السعي إلى حياة مريحة. وبعدما علمتنا الرأسمالية أنها دائماً وأبداً ترنو نحو الربح السريع وغير المنتج، استنتجنا أن الذكاء الاصطناعي كما أيّ شيء تروّج له الرأسمالية هو منتَجٌ للبيع وليس للتطوّر والتقدّم. فبدلَ أن يكرَّس الذكاء الاصطناعي للقيام بالأعمال التي تريح الناس في يوميّاتها، مثل جمع القمامة وتنظيف الشوارع وما يماثلها من أعمال تتطلب جهداً جسدياً عالياً، كُرَّسَ لكي يزيد مِن جهل الإنسان ويقوم بالتفكير عنه. مثلما يتم استخدام chatgpt وغيره في كتابة المواضيع الإنشائية وأطروحات التخرج والمقالات العلمية. لأن الرأسمالية تسارع في استغلال أي تطور لمصالحها الخاصة، غير آبهة بما قد ينعكس عنه. فيتم السماح لعامة البشر باستخدام الذكاء الاصطناعي في حالات مثل هذه بينما يتم تكريس الجهود والقدرات الأخرى لإرساء القوة في الصناعات الحربية. وهذا ما ينتج أجيالاً لا تفكّر ولا تعمل ولا تنتج، منشغلةً بكيفية ترقيع تعليمها لكي تحصل على شهاداتٍ ستنعكسُ سلباً على مستقبلنا جميعاً.
لم تفشل الدعاية الهوليوودية مثل عادتها بصناعة الأحلام الزائفة البعيدة كل البعد عن الواقع. ولكنها فشلت في استخدام الذكاء الاصطناعي في بناء هذه الحياة. فنماذج الذكاء الاصطناعي الموجودة حالياً تعمل على تكريس الجهل بدلاً من تكريس المعرفة والوعي. وتعمل على زيادة الشَّرخ في المجتمع بين مَن يُسمَح له بالتقدّم ومن لا يُسمَح له.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1185
آخر تعديل على الإثنين, 05 آب/أغسطس 2024 12:22