حدود حريتنا...
مروة صعب مروة صعب

حدود حريتنا...

توالت في السنوات الأخيرة عدة مؤشّرات اجتماعية تدلّ على سقوط النظام الرأسمالي. هي في بعضها تدلّ على التطور أو على الانتقال، وفي بعضها الآخر تدل على محاولة التشبّث بحبل النجاة.

الحركات النسوية

عندما تولد فتاةٌ تتربّى على أنّ محورَ حياتها هو إرضاءُ غيرِها، لهذا وُضِعَت (مِن قِبل غيرها) ووَضعتْ نفسَها (عبر توريث الأفكار نفسها) في أسفل الهرم الاجتماعي. ولهذا يكون مظهرُ المرأة هو الأهمّ في جميع المناسبات الاجتماعية، فدورُها الاجتماعيّ هو أنْ تكونَ «جميلة» و«أنيقة» و«زوجة صالحة» و«مربية» و«مضحّية»، وأيَّ شيءٍ يرضي غَيرها. ولهذا تتعرّض المرأة لعدّة أشكالٍ مِن التّهميش والعنفِ في المجتمعات كافةً. هذه التربية هي نتيجةٌ أولاً للتحوّل المتزايد لملكية وسائل الإنتاج من جماعية إلى خاصّة (اعتباراً ممّا بعد المشاعية البدائية)، وثانياً لسيطرة النظام الرأسمالي الذي عمّق انعدام المساواة طبقيّاً وبين الأفراد. قامت الرأسمالية على سيطرة حفنة صغيرة من الأفراد على مقدَّرات الشعوب، وانعكس هذا بتهميش الأغلبية المسيطَر عليها. نشأ عن هذا تغيُّرٌ في الأدوار الاجتماعية وبروز هرم اجتماعي من الأعلى المسيطِر إلى الأسفل المسيطَر عليه.
ولفترة طويلة من تاريخ المجتمع الطبقي، أدّى تحوُّل ملكية وسائل الإنتاج من جماعية إلى خاصّة إلى تغيير دورِ المرأة الإنتاجي والاجتماعي من عنصر أساسي في المجتمع إلى عنصر تابع، قبل أن تؤدي الثورة الصناعية الرأسمالية نفسُها إلى تحوُّلٍ ثوريٍّ في طابع قوى الإنتاج لتصبح جماعيّةً ومؤتمتةً أيضاً، وتُفسِح موضوعياً لإمكانيةِ انخراطٍ أوسع فأوسع للنساء في أعمالٍ كانت حكراً على الرجال، ومع ذلك ظلّت أغلبية النساء يعانينَ من ظُلمٍ مزدَوَج طَبقيّ وجنسيّ. ونظراً لاستمرار وتعمّق التناقض الأساسيّ في الرأسمالية -بين ثوريّة هذا الطابع الجماعي لقوى الإنتاج من جهة، ورجعيّة الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج من جهة أخرى- فإنّ أزمات هذا النظام تستمر وتتفاقم، ومع أنه يضطرّ إلى أن يعطي دوراً أكبر للمرأة في المجتمع، ولكن طالما بقي ذلك يدور في دوّامة الرأسمالية فلن يكون أيّ دورٍ كهذا كافياً، لا لتحرّر المرأة خاصّةً ولا لتحرّر الإنسانية عامّةً بالشّكل الحقيقي المنشود.
ولذلك يعمد النظام الرأسمالي، كما يعمد دائماً، إلى إيهام البشر بأنهم أحرار في حياتهم؛ فبرزت الحركات النسوية المتطرّفة التي تَعتبر أنّ جُلَّ المشكلة هو الرجل، كلّ رجل على هذه الأرض إلّا الذي يتحدّث بتطرفٍ مثلهن. وتَعتبر هذه الحركات النسوية نفسَها متقدّمةً عن باقي المجتمع «المتخلِّف»، وهذا ليس في بلدان الشرق فقط بل وفي الغرب أيضاً، وتَعتَبرُ أنها حلّت شيفرة العنف والتهميش والسيطرة بإلقاء اللوم على الرجل وبـ«التحرّر» من جميع قيود المجتمع. والتحرّر بالنسبة لهن مرتبطٌ بالمظهر والملبس والجنس، ولا يتطرّقُ إلى أيٍّ مِن الأزمات التي تعيشُها المرأة اليوم، غيرُ مرتبطٍ بالمجازر التي تحصل والعنف الذي تتعرَّضُ له النساء. حلولهن هذه التي تتمحور حول «تمكين» المرأة في المجتمع عبر «طاولات حوار» تعود بعدها المرأة لتمارس الدورَ نفسَهُ الذي كانت تمارسه من قبل – حلولهنّ هذه تدلُّ على تهاوي المجتمع الذي لم يستطع إيجاد حلٍّ لمشكلةِ التهميش فأسقَط المشكلةَ بقالبٍ آخَرَ ما أنتجَ وسينتج مشاكل أخرى وأكبر.

وسائل التواصل الاجتماعي

وسائل التواصل الاجتماعي هي مؤشر آخَر على سقوط النظام الرأسمالي. فهي تعكس الانحطاط الأخلاقي والقيميّ الذي وصل إليه المجتمع وبالتالي النظام الذي يحمله. هو عبارة عن كائنات تبحث عن قيمةٍ لنفسها بأيّ شكل من الأشكال، تتسابق دوماً للحصول على اعتراف الآخرين بها، وخاصةً أنّ «الحياة» التي تُصَوَّر على وسائل التواصل الاجتماعي تُعبِّرُ عن الثراء السريع، وعن الشهرة، وتعبر عن ذاتية عالية. وقد زادت الأزمة الرأسمالية من ارتفاع نسبة الابتذال على وسائل التواصل الاجتماعي، التي مع تعمقها تزيد من أزمة البشر الاقتصادية والوجودية والنفسية والاجتماعية. انتقل ملعب الابتذال والاستعراض الاجتماعي الذي كنا نعيشه قبل انتشار هذه الوسائل من الواقع إلى العالَم الافتراضي، الذي أعطى هامش مناورة أكبر لأنه افتراضي. فانتقلت معه جميع التشكيلات والانحرافات التي نتجت عن الرأسمالية، فأيّ شيء أصبح ممكناً وأصبح على العلن لأنه يوهم أصحابه أنهم ذوو قيمة أكبر من حقيقتهم وأنهم سيجنون الأموال بمقابلها. بالطبع لا ننفي أنّ لوسائل التواصل الاجتماعي أو للإنترنت بالعموم ميزات إيجابية عديدة، ولكن سلبيته في طرقٍ معيَّنة لاستخدامه، وفي عدم إيجاد الحد الفاصل بين الواقعي وغير الواقعي، والأخلاقي وغير الأخلاقي.

حدود حريتنا

على عكس ما روّجت له الرأسمالية، الحرّية لا تعني الأنانية والذاتية وهي ليست مطلقة. لأننا بحاجة للعيش في مجتمعات من أجل بقائنا، حريّتنا مرتبطة بهذه المجتمعات وبالذين يعيشون معنا. استخدمت الرأسمالية الحرية للتعبير عن موقعها في العالم وعن موقع مَن ضدَّها ولتبرّر همجيّتها وسلبَها لمقدَّرات الشعوب. مثلما تستخدم الحركاتُ النسوية المتطرِّفة والبعضُ على وسائل التواصل الاجتماعي حريتَهم للقيام بأيّ فعل والتعبير بأيّ شكل. ما يَفوت هؤلاء أننا سنظلّ كلنا أسرى لهذا النظام، ولن نكون أحراراً إذا بقينا بلا بديلٍ حقيقي عن الرأسمالية، يعطي الشعوبَ قيمةً حقيقيّة وغير افتراضيّة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1176