علم النفس التحرري بمواجهة علم النفس الليبرالي (2): التفاؤُل يُكتَسب
نتابع في هذه المادة الحديث عن أهم النقاط التي وردت على لسان المهندس والباحث في علم الاجتماع «محمود أبو العادي» ضمن اللقاء الإعلامي الذي أجراه أواخر نيسان الماضي مع الصحفية منى العمري في بودكاست «البلاد»، والذي تناول فيه الفروقات بين علم النفس التحرري وعلم النفس المهيمن في تعامل كلّ منهما مع الفرد المقهور، وسيكون هذا الجزء مخصصاً لاستعراض النموذج الفلسطيني كمثال على كيفية تعاطي كل من عِلمَيّ النفس التحرري والمهيمن معه.
أفراد أم جماعات؟
عززت فينا هذه الحرب الشعور بروح الجماعة، فردود الأفعال على هذه الحرب منذ 7 أكتوبر وحتى على مستوى غربي، كانت عبارة عن هيستيريا جمعية، فأصبح هنالك أناس، لا علاقة مباشرة لهم بما حدث، يشعرون بتهديد ليس من أفراد، بل من جماعة كاملة. وهذا ما لاحظناه أيضاً لدى العرب فهؤلاء على الرغم من الاستثمار في مشاريع الهندسة الاجتماعية والتطبيع والترويض، وحتى فكرة التأديب (بأن تحاول جعل هؤلاء الناس ناقمين على مقاومتهم وأن تصهر وعيهم عبر استئصال البنية التحتية لكل فكرة المقاومة والصمود) لم تنجح، فهؤلاء لديهم منظومة قيم ومعتقدات ترفض الهزيمة، ولديهم نسيج اجتماعي صلب. فالكثير من الدراسات تشير إلى أن أكثر ما وقى المنطقة من الهزيمة هو المؤسسات الوقفية مثلاً، لأنها حافظت على النسيج الاجتماعي، فرغم كل محاولات التهويد ما زال الناس يقولون ما قاله أجدادهم في الـ 48، وهذا شيء مبهر، ليس شيئاً عادياً، فالناس هنا نموذج فريد في العالم، فجميع السياسات التي بذلت والأموال التي وضعت من أجل صهر الوعي سقطت أرضاً.
وكمثال آخر على الروح الجمعية ما بعد الحرب انظري مثلاً للجهود المبذولة في أجزاء متناثرة من العالم، فصفحات الترجمة نشطت، وأصبح هنالك شعور أممي عالٍ، وأصبحت الناس تحيل ما يجري في غزة على أنه مشروعها الخاص ولديها مطالب محددة تجاهه، وظهرت طروحات تقول بأن المقاومة تمثّلنا بغض النظر عن الانتماء الحزبي. وللمرة الأولى في تاريخنا المعاصر ننتقل من وضعية الضحية والمقهور والمضطهَد إلى وضعية المُبادِئ بالفعل. فهؤلاء الجماعة (المقاومون) ليسوا صابرين فحسب بل وما زالت في بالهم فكرة المُبادرة، وبالتالي أعطوا صورة للعدو بأنهم ما زالوا أنداداً له وليسوا ضحية فقط، وتحديداً ليسوا «الضحية المثالية» وهذا ما ظهر جلياً في قرار إغلاق الأونروا، ولسان حال أولئك يقول: نحن مستعدون لمساعدتك عندما تكون ضحية ولكن ليس عندما تُبادئ ويكون لديك خيال وأفق تحرّري. فأنت بذلك تصبح مرعباً ليس بالنسبة لـ«إسرائيل» فقط بل حتى للغرب كلّه.
«المخيال الجمعي» خارج إطار الاحتلال
إحدى أدوات الاستعمار الذهني المقولة الشائعة لمارغريت تاتشر، ففي أثناء حملتها ضد الشيوعية، إذْ إنها كانت تتبنى شعار TINA (there is no alternative) لا يوجد بديل للرأسمالية، وهذا كان جزءاً من حملة انتخابية، بالطريقة نفسها فإن ما يفعله الاحتلال هو إشعار الناس بأنه لا بديل لواقعك، وبالتالي ليس عليك أن تفكّر إلا من خلاله، وعليه يصبح جزءاً أساسياً من المقاومة أن تتخيّل نفسك في سياق غير الاحتلال، فينشأ سؤال: ماذا كنت لأكون لو لم يكن هنالك احتلال؟ وهذا الخيال يبنى عليه فعل، فالمشكلة تبدأ من عجز في الخيال، عجز في الإدراك، عجز في الفعل. لذلك من أهم أدوات العلاج النفسي التحرّري ما يسمّى «العلاج بالسرد»، فيقوم الشخص بسرد مشكلته، وعندها نسأله: هل يمكنك تخيل نفسك في واقع آخر؟ ما الذي يمكنك فعله لتصل لهذا الواقع؟ أي علينا إعادة قراءة أنفسنا خارج إطار القهر والمظلومية.
وعلى مستوى التطبيق حدث ذلك في الدراسات ما بعد الاستعمارية، ففي جامعة بيرزيت كان مشروع التخرج لإحدى المهندسات حول شكل المكان بغياب الحواجز بعد تحرير فلسطين، ولربما مثال الهروب من سجن الجلبوع قريبٌ لما نتحدّث عنه، فما حدث هو تعبير عن حالة مخيال جمعي لفكرة التحّرر وانتهاك لمخيال الوضع القائم، والحادثة تحمل جرحاً نرجسيّاً للذات الصهيونية وشعوراً بالإهانة، خصوصاً في ظل وضع السجون المُحكمة التي أشعرت الكيان بأنه أحكَم القبضة وسيطَر مرةً واحدة وإلى الأبد.
العجز المكتسب والتفاؤل المكتسب
في علم النفس لدينا ما يعرف بالتنافر المعرفي؛ وهو التناقض بين وجود مجموعة من المعتقدات التي نؤمن بها وما نقوم بفعله في الواقع، وهنا نقع في أزمة، ويكون الحل إمّا أن نتنازل عن هذا المعتَقَد ونقوم بتبديله، أو نغيّر السلوك. وبوجود حالة العجز على أرض الواقع فالناس تحاول خلق مقولات بسيطة من قبيل: «لا تألفوا المشهد، العالم ضدنا... إلخ»، وهنا لا بدّ من الحديث عن فكرة ما يسمّى بالعجز المكتسب، فهو يرتكز على أن الشخص يقوم بمجموعة من الحالات الفاشلة، ثم يستنتج بأنه لا يمكن فعل أي شيء من الأساس. أحد العلماء قام بتجربة تعتبر غير أخلاقية، حيث قام بوضع مجموعتين من الفئران على أرضية تصعق بالكهرباء، المجموعة الأولى أعطاها مهارب، فعندما صعقت هربت، أما الثانية لم يكن هنالك مهارب، فحاولت في المرة الأولى الهرب ولم تنجح، كررت المحاولة مرة ثانية وثالثة وفشلت. المفارقة أنه في المرة الرابعة تم وضع مهارب ومخارج لهم ولكنهم مع ذلك لم يحاولوا الهرب، وذلك بسبب وجود عجز مكتسب، فحتى لو وجد الحل يشعر الشخص بأنه فاشل ولا مجال للنجاة. بالإسقاط على الحالة الفلسطينية هنالك من يفترض أن أجداده حاولوا في الـ48 والـ67 والـ73 وفي حرب بيروت وفي الانتفاضة ولكنهم لم ينجحوا، وهنا بعد فترة تنشأ مقولات مثبِّطة وهذا جزء من التنافر المعرفي.
استعمار اللغة!
علم النفس التحرّري لديه فكرة مهمة وهي أنّ أوّل ما يتم استعمارُه في الشخص هو ليس فقط الذات –خاصةً في الاستعمار الجديد- بل يحصل أيضاً استعمارُ اللغة، والمقصود هنا ليست اللغة العربية عبر استبدال اللغة الإنكليزية بها مثلاً، بل المقصود هو حتى لو أنك تتحدث بلغتك الأصلية، فما هي المصطلحات التي تتحدث بها؟ فنحن نتحدث بمصطلحات من قبيل: «يا أمّةً ضحكت من جهلها الأمم»، أو «إذا أردت أن تخبّئ شيئاً فضعْه في كتاب فأمّة (اقرأ) لا تقرأ»، أو «نحن نستحق ما يحدث لنا»، و«نحن متخاذلون»... وغيرها من المقولات التي لها وقعٌ على النفوس، ووقعها يصل إلى مستوى الفعل، فنصل لمرحلة اللا فعل، وهذا مثال على العجز المكتسب. وبالتالي فهذا أسوأ ما يمكن مشاركته على «السوشال ميديا»، بل على العكس يجب مشاركة ما يزيد من فعالية الناس، كأن نشارك ما يدعو للاحتفاء بكل فعل مقاوم، صغيراً كان أو كبيراً. فبمقابل العجز المكتسب هنالك تفاؤل مكتسب، فالناس تتعلم، إذا ما أشرت لها إلى التجارب الناجحة، تبدأ بالنظر إلى أنفسها على أنها ناجحة وقادرة وبالتالي تحاول مجدداً وتبتكر حلولاً مختلفة عن الماضي، فما جرّبه أسلافنا في الماضي ليس من الضرورة أن يكون فاشلاً، ويمكننا إعادة تجربته.
ما الحلول التي يقدّمها علم النفس التحرري؟
عندما ستنتهي الحرب ستدخل المنظمات وتتعامل مع الجميع على أنهم مصابون باضطراب ما بعد الصدمة (استدعاء للحظات ما بعد القصف، تأهُّبٌ عالٍ في الجسد، تجنُّبٌ ونكوصٌ وانعزال...) ولكن هذا ما يحاول علم النفس التحرري نقدَه، فعلم النفس المهيمن ينظر إلى الصدمة بوصفها مقطعاً لحظيّاً على خط الزمن، على الرغم من أنّ أسباب الصدمة ما زالت قائمة، ففكرة الاحتلال والقهر ليست حدثاً عرضياً، إنها ممتدّة على الخط الزمني. فعلم النفس التحرّري يحاول النظر إلى الحالة في الحرب على أنّها بنيةٌ كاملة، لا يمكن الاكتفاء بعلاج أعراضها فقط، فنحن نتعامل مع مؤسَّسات، بنى اجتماعية، قوانين وأنظمة وسياسات، وعليه ليست مهمّة علم النفس ها هنا تحويلُ الشخص مِن حالة المريض نفسياً إلى حالة المتعافي نفسياً، بل مهمّته هو تحويلُه لناشط وفاعل ضمن خطة حلٍّ كاملة، قد تكون مؤسَّسة مجتمعٍ مدنيٍّ أو جزءاً من تنظيمٍ ما، وهذا ما يقول به علم النفس التحرّري؛ فنحن لا نستطيع إنقاذ أنفسنا إلا من خلال إنقاذ الناس.
لقراءة الجزء الأول من المقال: (علم النفس التحرري بمواجهة علم النفس الليبرالي (1) - بدائل العالم الجديد)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1175