من الذي سينتصر؟
«اليوم الأمور تتغير، اليوم يُخلق بشرٌ جديدون، اليوم تُقلب الصّفوف ليصبح الآخِرون هم الأولون والأولون هم الآخِرون، والقيادات التّقليديّة المحليّة التي طالما ساومت ولم تكن بقدر المسؤولية، في طريقها إلى فقدان مواقعها لصالح شريحة أوسع بكثير، تنظم نفسها أفقياً ومن دون تمثيل».
تؤكد تطورات الأحداث على المستوى العالمي صحة الكلام الوارد في الاقتباس أعلاه للشهيد المشتبك، كما سمّاه رفاقه، باسل الأعرج. حيث يغيّر صمود الشعب الفلسطيني قواعد الاشتباك، ويخوض مع المقاومة معارك استثنائية وإعجازية لم يرَ لها التاريخ مثيلاً، يريد العدو فيها «نصراً» ضرورياً وإلا فإنه مهدد بوجوده نفسه، وهذا الاستنتاج لم يأت من طرف المقاومة فقط، بل من أحد أركان الكيان الصهيوني ووزير دفاعه يوآف غالانت الذي قال: «ما لم نحقق هذا النصر فلن يكون بمقدورنا العيش في منطقة الشرق الأوسط»!
بعبع من كرتون
ينقل الإعلام صوراً حقيقية للمأساة الفظيعة التي يتعرض لها أهل غزة، ولكن خلال تركيزه على نقل وتصوير الحالة الإنسانية يفوته الكثير من النتائج الإيجابية التي حققتها المقاومة وصمود أهل غزة وناسها إلى حد الآن ولا تزال.
إن هزيمة بحجم ما جرى في السابع من تشرين الأول من العام الفائت شكلت زلزالاً وجودياً للكيان الصهيوني، فلأول مرة تنهار دفاعات الكيان ومراكزه العسكرية في غلاف غزة بسرعة خاطفة أمام مبادرة المقاومة الفلسطينية ومن خلال عملية مدهشة لا يمكن تخيلها، نقلتها على الفور الصور والفيديوهات القادمة من موقع الحدث، ولأول مرة يسقط عدد غير مسبوق من القتلى والجرحى والأسرى في صفوفه، مما أسّس لحالة من تزعزع الثقة بقدراته وهيبته والمكانة التي قطع شوطاً كبيراً في سبيلها «كمتسيّد» على المنطقة كلها. كما أسّس لحالة من فقدان الثقة بين قاطنيه، دفع ويدفع بالكثير منهم إلى هجرة معاكسة باتجاه البلدان التي لا يزالون يحملون جنسياتها وهؤلاء يمثلون الأكثرية الساحقة في الكيان، خاصة أن هناك فجوة في اللحمة الاجتماعية الحقيقية للمجموعات العرقية المتعددة التي تجمعت في فلسطين التاريخية من شتى أرجاء الأرض، ساعدها في ذلك توازن دولي أنجز لها تفوقاً قائماً على «القوة والثروة» حينها، وهي لا تستطيع تحمل هزيمة واحدة! أما الآن فقد تغيرت موازين القوى على المستوى العالمي وتتغير على المستوى الإقليمي مما يجعل كل من كان من يهود الشتات يفكر بالهجرة إلى «أرض الميعاد» يتردد عشرات المرات قبل أن يقدم على تنفيذ ما كان يفكر فيه. إضافة إلى النتائج المترتبة على نزوح الآلاف من مستوطنيه عن الشمال والجنوب إلى الوسط داخل الكيان وآثاره متعددة الجوانب على بنيته الداخلية مما يؤكد أن ميزان الديموغرافيا في هذه المعركة لم يَمِلْ لصالح العدو بل العكس.
إن تمريغ أنف جيش الاحتلال الموصوف بأنه «لا يقهر» وترسانته العسكرية في تراب قطاع غزة إضافة إلى الخسائر الفادحة في الوضع الاقتصادي للكيان وما يتبعها من آثار اقتصادية واجتماعية غير قابلة للشفاء لفترات طويلة قادمة، أظهرت لقادة العدو أن مصير كيانهم بات مهدداً وبدا كأنه بعبع من كرتون، وهو ما يفسر في أحد أوجهه الوحشية والهمجية التي ينتهجها ضد الشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل ووصولها إلى مستوى الإبادة الجماعية.
وعلى العكس من ذلك، في الجانب الفلسطيني، ورغم الآلام التي يتحملها الناس في غزة فقد جدد «الطوفان» ثقة الشعب الفلسطيني بالمقاومة ورهاناتها، وأطلقت وحشية الصهاينة ومَن خلفهم موجةَ غضب واحتجاج، سياسي وشعبي، ملأت شوارع العالم وساحاته. وغيرت وجهة النظر تجاه القضية الفلسطينية وأظهرت حجم تضحيات وصبر وآلام الفلسطينيين، ولأول مرة فجرت مشاعر تعاطف وتضامن مئات الملايين في أنحاء العالم وعند شعوب المنظومة الغربية مع الحقوق الفلسطينية، ودفعت بها إلى طاولات النقاش.
«كسر الصنم، وهدمه»
يشير الشهيد باسل الأعرج أن «العدو لا بد راحل، شرط ألا يصبح ساكناً في العقول والرؤوس»، وأن الفكرة الأساسية المهمة هنا ألّا تنكسر من الداخل، وألّا يصبح وجود العدو «طبيعياً»، أو عادياً، أو يومياً معاشاً، وأن الأهم أيضاً هو ضرورة إيضاح من هو العدو، وتحديده، وأنه لا بد من «كسر الصنم، وهدمه» لأن أول ما يفعله «الاستعمار هو تعريف الممكن والمستحيل للشعوب المضطهدة، ويعاونه في ذلك عادة بعض أفراد الشعب ويتم ذلك عبر تقنيات تدخل مباشرة وغير مباشرة، فلا تصدقوا ما يتم قوله ونقله ومحاولة زرعه في عقولنا، وحاكموا المقولات وفق المنطق وقوة التحرر لدى الشعوب». فغالباً ما يظهر هؤلاء في المعركة الخلفية للعدو معركة الثقافة والقيم، حيث يعترفون بحقوقك لكن بشروط، وأهم شرط هو أن تظل تدور في فلكهم ولا تحاول التمرد على ما يلقنونه لك، ويصبح من الواجب «على المستعمَر من أجل هضم ثقافة مضطهديه أن يقدم ضمانات ومن بينها تبنّي أشكال التفكير الخاصة بهم».
الحرب يخسرها اليائس والمقاومة فعل عقلي وروحي قبل أي شيء، ولذلك ثمة ضرورة لتحضير الداخل قبل الخارج، وأن تصبح المقاومة فعل حياة يومي، حيث «الهدف الرئيس هو ضرورة استمرار الاشتباك ولو بوتيرة منخفضة، أحياناً تعلو كثيراً وأحياناً تعود إلى وتيرتها المستمرة نفسها»، ينطبق هذا التحليل أيضاً على المقاومة الشخصية والفردية المرتبطة باليومي والشعبي والمعاش.
«سكّينك احذرْ أن تتدجن للمطبخ...»
ثمة أهمية للفلسفة والاستراتيجية الخاصة بفكرة المقاومة في كل زمان ومكان، حيث تجد تعبيراتها المختلفة أشكالاً متنوعة للظهور، يخاطب الشاعر العراقي مظفر النواب في إحدى قصائده روح المقاوم وعقله «سكّينك احذرْ أن تتدجَّن للمطبخ...»! ثمة ضرورة لتقدير روح المغامرة التي يمكن لها أن تتقن استغلال الإمكانيات المتاحة والمتوفرة من أجل الوصول إلى الهدف، ثمة ضرورة لتحويل هذه الروح إلى نقطة اشتعال واعية، ودفعها إلى إشعال عشرات النقاط من نقاط الاشتباك التقليدية أو المستحدثة يومياً. فهناك وحدة حال ومصير تجمع المقاومين في جميع أنحاء العالم.
من هنا تأتي ضرورة فهم أن إحدى أهم خطوات الصراع إنما تكمن في فهم المجتمع وإدراكه، وتنظيم الطليعة الواعية فيه وتحديد طريقةٍ للتعامل مع الإمكانيات الكامنة فيه.
تقدم التطورات الحاصلة في العالم اليوم إجابات عن كثير من الأسئلة القديمة، اليوم تخترق المقاومة الهدوء في مناطق الصراع وتفرض منطقها الخاص على تلك القيادات التقليدية التي تطرح من خلال وعي زائف فلسفتها الخاصة في المساومة، في أن العدو يمكن أن يمنَّ علينا «بعطفه» ويعيد لنا حقوقنا.
لا يمكن لأي مهتمّ بالشأن العام إلا أن يتفاءل، ولا خيار أمام المقاومين إلا الصمود والاستمرار، ذلك أن المقاومة فعل مستمر ذو جدوى، لا ينتهي إلا بانتهاء الاحتلال أينما كان، وأيّاً كان شكله.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1169