ضرورة تنظيم الخطاب الفني الثوري

نظرةٌ مكثَّفة لفهم خصوصيَّة الفنِّ الثوريِّ

قبل أيِّ شيءٍ ينبغي علينا أن نفرِّق ما بين الفنِّ السائد المهيمن في المجتمع، ووجهه الآخر المكمل له الذي يدّعي الاستقلاليَّة عنه، أي «الفن المستقل» والفنِّ الثوريِّ. فإنَّ الحسَّ السليم للجماهير يدرك طبيعة هذا العمل الفنِّيّ أو ذاك، وارتباطهم العضويَّ مع الخطاب السياسيِّ الرسميِّ للسلطات الخشنة بقمعها، أو الخطاب السياسيِّ للسلطات الناعمة بقمعها، فمن جهةٍ يقال إنَّ هذه الأعمال الفنيَّة «إبر بنج» من قبل السلطة، ومن جهةٍ أخرى يقال إنَّ تلك الأعمال الفنيَّة «صرعة» أو «غير مفهومة»، وما إلى هنالك من تعبيراتٍ عفويَّةٍ ترد بها الجماهير على تواصل الفن السائد والمستقل معها. أمَّا الفنُّ الثوريُّ، فهو فنٌّ مركَّبٌ من عنصرين «الفنُّ الشعبيُّ - الفنُّ العلميُّ». ولننظر معاً بشكلٍ مختصرٍ إلى كلِّ عنصرٍ على حِدَة. فمن المعلوم أن الخزَّان الكبير للفنِّ الشعبيِّ موجود في الريف، والخزان الأصغر موجود في المدينة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تتكثَّف في الأرياف نتاجات الرقص والموسيقى، والأدب الشفويِّ مثل الحكايات الشعبيَّة، والغناء، والشعر. وفي المدن يوجد الفنُّ الشعبيُّ بكثرةٍ عبر أسلوب السخريَّة، كالنكتة التي تحكي قصَّةً قصيرةً جداً، أو من خلال الألعاب التي تعتمد على المحاكاة، أي الأداء التمثيلي، أو هناك فنون الشارع من رقص وغناء، أو أداء تمثيلي يوصل الحكاية من خلال الدمى. وهناك تاريخ كبير للحرف اليدويَّة. أمَّا الفن العلمي، فهو لأهل الاختصاص كما يقال، أي الفنانين المحترفين الذين إما درسوا في الأكاديميَّات، أو تعلموا الاختصاص من خلال الدراسة الذاتيَّة والممارسة، وفي كلتا الحالتين يُفترض من نتاجاتهم الفنيَّة أن تستند في مسارها الإبداعي على العلوم، وبشكلٍ خاصٍّ، الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة منها، وأيضاً على أمّ العلوم الفلسفة. والنقطة المتحولة لظهور نتاجٍ فنيٍّ ثوريٍّ تأتي في كلِّ مرحلةٍ يترابط ويتفاعل ويتكامل فيها نتاج الفن الشعبي مع نتاج الفن العلمي.
إنَّ ظهور النتاجات الفنيَّة الثوريَّة على مسرح التاريخ في النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر، وفي النصف الأوَّل من القرن العشرين، قد أعطى النظام الرأسمالي درسًا قاسيًا، ما دفعهم في مطلع الثمانينيَّات إلى أن يستخدموا أدواتهم القمعيَّة الناعمة أو الخشنة بدرجة أعلى من ذي قبل، لفصل الفن الشعبيِّ عن الفن العلميِّ، وعليه سادت في الساحة نتاجات الفنون الشعبويَّة والنخبويَّة.
لتعميق النظرة أكثر على خصوصيَّة الفن الثوريِّ، يجب علينا أن نتجرَّأ بالإشارة إلى أنَّ الفن الثوريَّ عبر السيرورة الطويلة المعقَّدة لتطوُّره، قد تحوَّل من كونه فنًّا ثوريًّا إلى خطابٍ فنيٍّ ثوريٍّ، لكن مشكلته تكمن بأنَّه غير منظمٍ، ليس كما هو الحال بالنسبة للخطاب السياسيِّ الثوريِّ. ونعتقد أنَّ ضرورة المرحلة تقتضي تنظيمه، وهذه المهمَّة لا يمكن إنجازها من دون أن ينظِّم هذا الخطاب ضمن علاقةٍ خاصَّةٍ مع الحزب الثوريِّ مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الأحزاب الثوريَّة في العالم متأخِّرة في هذا الجانب أمام وجود خطابٍ فنيٍّ عدميٍّ منظَّم، ويصول ويجول بين الجماهير، وهو يتطوَّر بمساره منذ أوائل التسعينيَّات من القرن الماضي، بشكلٍ متسارعٍ في أرجاء العالم كافَّةً، وتحديداً في منطقتنا.
اسمحوا لنا بأن نكثِّف النظرة أكثر، ونذهب إلى المقولة الفلسفيَّة في الماديَّة الديالكتيكيَّة «الوحيد، الخاص، والعام». فإنَّ ديالكتيك الخطاب السياسيِّ داخل الحزب الثوريِّ، يتجلَّى عبر هذه المقولة، ولننظر معاً إلى ديالكتيك الخطاب السياسي في حزب الإرادة الشعبيَّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعبِّر الافتتاحيَّة عن تكثف الجانب الملموس، أي الجانب الوحيد من المقولة. وإن البرنامج السياسي يعبِّر عن تكثف الجانب الخاصِّ من المقولة. وإنَّ المرجعيَّة الماركسيَّة اللينينيَّة تعبِّر عن تكثف الجانب العام من المقولة. ولا يمكن أن يتطوَّر بأيِّ شكلٍ من الأشكال هذا الخطاب، إذا انقطع عن العمل اليوميِّ الرتيب والمنظَّم. والحركة الديالكتيكيَّة ذاتها موجودة في الخطاب الفنيِّ الثوريِّ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن ملاحظة تكثُّف الجانب الوحيد من المقولة، بأقل تقدير عندما نسمع أغنيةً، أو ندندنها، أو عندما نقرأ قصَّةً قصيرةً، أو نحكي حكايةً. ويمكن ملاحظة تكثُّف الجانب الخاصَّ من المقولة، أي الرؤية، عندما نشاهد فيلماً سينمائيّاً، أو عرضاً مسرحياً، أو عندما نقرأ رواية، أو عندما نزور معرض فنٍ تشكيليٍّ. أمَّا تكثُّف الجانب العام من المقولة، يمكن ملاحظته بالنظريَّات الفنيَّة. ويكمن الجانب الجوهريُّ في المسألة بأن يكون للخطاب الفنيِّ الثوريِّ هدفًا أعلى، أو بعبارةٍ أخرى عقيدةً، ولكلِّ نتاجٍ فنيٍّ معيَّن هدفٌ سياسيٌّ أعلى.
إنَّ خصوصيَّة الخطاب الفنيِّ الثوريِّ تكمن بأنَّه يعتمد الارتجال، والخيال، لذلك تطوُّره مقترنٌ بأن تبقى لديه هذه الخصوصيَّة، وفي الوقت ذاته يتحرَّك وفق منهجٍ منظَّمٍ. وربَّما صلة الوصل الأساسيَّة التي ستربط ديالكتيك الخطاب الفنيِّ الثوريِّ بعلاقةٍ خاصَّةٍ مع الحزب الثوريِّ، تكمن بترابط الثقافة بين النظريَّة والتطبيق عبر مؤسَّسةٍ خاصَّةٍ للحزب الثوريِّ.
ربَّما عبر هذه الخاتمة نستطيع أن نعبِّر عن مقدِّمة المادة بطريقةٍ أخرى تكثِّف المعنى من جوانبه الحسيَّة، بعدما قدمنا لكم صلب الموضوع. فالحزب الثوريُّ، كالنهر الكبير، ومنبعه الأساسيُّ التقاء إرادة الشعوب في تقرير مصيرها. وهناك روافد متنوعة تغذِّي مجراه، وتسهم بتطوير سياقه التاريخيِّ. وتتفاعل بشكلٍ مستقلٍ نسبياً مع طبيعة كلِّ مرحلةٍ مختلفةٍ. وصحيح أنَّه قد يأتي زمنٌ تميل فيه حركة النهر الكبير نحو البطء الشديد، لدرجة قد يبدو أنَّها توقَّفت، وقد يأتي زمنٌ تعود فيه من جديد حركة النهر الكبير إلى حالتها النشطة لكن بدرجةٍ أعلى من ذي قبل، وبطبيعة الحال ستواجه سدوداً وضعت أمامها وفق خطَّةٍ محكمة الصنع لتثبيط إرادة منبعها الأساسيِّ، أي الحركة الشعبيَّة الثوريَّة، ودفعها نحو توترٍ شديدٍ. وعلَّمتنا التجربة المريرة والقاسية بأنَّه، أثناء الغضب العارم، سيتم إلقاء الصخور المتفجرة على مسار الحركة، والقنابل الضبابية أمام رؤيتها، ليس لأنَّهم غير قادرين على منع تدفُّق حركتها تلك فحسب، إنَّما أيضاً لدفعها نحو الفوضى، وعليه يتم إلقاء اللوم على أنَّها ليست حركةً شعبيَّةً ثوريَّةً، إنَّما حركةٌ عدميةٌ تفيض وتدمِّر الكوكب. ونحن نعيش هذه المرحلة الأخيرة بشكلٍ متواترٍ ومنتظمٍ، منذ أوائل التسعينيَّات من القرن الماضي، بعدما حصلت الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى، إلى اليوم بعدما أطلقت المقاومة معركة «طوفان الأقصى». وإذا كان هدفنا الوصول إلى تغييرٍ ثوريٍّ يحقِّق أعلى درجةٍ من النموِّ، مع أعمق عدالةٍ اجتماعيَّةٍ، فإنَّنا بالوقت الراهن بحاجةٍ ماسةٍ إلى تحقيق أعلى درجة من التنظيم، مع أعمق حالةٍ من الصبر، جنباً إلى جنب مع تفاعل جميع الأدوات الثوريَّة مع بعضها البعض. وعليه سيصل النهر الكبير إلى مقصده المنشود.