«ثمانية ونصف» لفلليني: شاشة كبيرة لكشف أزمة المبدع

«ثمانية ونصف» لفلليني: شاشة كبيرة لكشف أزمة المبدع

بالنسبة الى غلاة محبي افلام فدريكو فلليني، من الواضح ان الفيلم الأجمل والأهم الذي حققه طوال مساره السينمائي الذي امتد نحو نصف قرن من الزمن، كان ذلك الفيلم ذا الاسم الغريب في حينه «ثمانية ونصف». وبالنسبة الى هواة السينما من الذين راقتهم، وتروقهم حتى اليوم أفلام السيرة الذاتية يعتبر «ثمانية ونصف» هذا اول فيلم كبير افتتح هذا النوع عام 1963. طبعاً كانت هناك افلام سيرة وحتى أفلام سيرة ذاتية من قبل تحفة فلليني هذه، لكن هذا الفيلم كان الأكثر اكتمالاً وجمالاً، بل حتى صراحة في مضمار تعبيره، ليس فقط عن فصول من حياة مخرجه وسيرته الفنية، بل اكثر من هذا: عن نظرته الى أزمة الإبداع التي كان يعيشها في ذلك الحين.

والحقيقة ان السينما، حتى وإن عادت مراراً وتكراراً الى مواضيع السيرة الذاتية لأصحابها، فإنها نادراً ما طرقت هذا الجانب المتعلق بفعل الإبداع الفني نفسه. ومن هنا ما يراه البعض من ان «ثمانية ونصف» لم يكن رائداً في مجاله فقط، بل كان فريداً من نوعه الى حد كبير. وسيقال دائماً شيء إضافي وهو ان ما من فنان سينمائي اوصل لعبة النقد الذاتي الى المستوى الذي أوصلها إليه فلليني في هذا الفيلم.

وهنا قبل ان نتحدث عن «ثمانية ونصف» قد يكون من المفيد التوقف عند عنوانه نفسه و «محاولة» تفسير هذا الرقم الغريب. ويقيناً ان التفسير في حد ذاته سرعان ما يزيل تلك الغرابة: فحتى ذلك الحين، أي عام 1963 الذي حقق فيه فلليني هذا الفيلم، كان فنان السينما الإيطالية هذا قد حقق سبعة أفلام، ثم شارك في تحقيق فيلم مع مخرج آخر (لاتوادا) وهكذا حسب، في كل بساطة ان رصيده حتى ذلك الحين بلغ سبعة افلام ونصف الفيلم. ومن هنا صار فيلمه الجديد يحمل، في مساره، الرقم ثمانية ونصف... فكان هذا الرقم عنواناً له.

انطلاقاً من هنا، يمكن القول ان الفيلم الذي حققه فلليني هنا، إنما هو في حقيقة أمره فيلم عن فيلم يحققه مخرجه. ولم يكن صدفة ان يلعب دور المخرج في الفيلم الممثل مارتشيلو ماستروياني، الذي الى نجوميته المطلقة في عالم السينما الإيطالية والعالمية، كان يعتبر الأنا الآخر لفلليني، إذ غالباً قبل «ثمانية ونصف» وبعده ايضاً - خدم المخرج في افلام عدة له كمرآة، يصور من خلالها ذاته وعواطفه وأحلامه وخيباته. ومن هنا ارتبط الرجلان عقوداً طويلة من السنين، وكان ماستروياني، مهما شرّقت به أعماله وغرّبت، يجد الراحة الفنية حين يحقق له فلليني عملاً. وفي «ثمانية ونصف» وصل التعاون بين الرجلين الى ذروته، إذ لعب ماستروياني دور المخرج الإيطالي غويدو انسلمي، الذي يصوَّر امامنا خلال ساعتي الفيلم وهو يعاني في انحباس الإبداع وعدم القدرة على تحقيق فيلم جديد له، طُلب منه ان يحققه. في البداية كان جرى الاتفاق معه، من جانب المنتجين، على ان يحقق فيلم خيال علمي، لكنه إذ شرع في التصوير ووصل الى منتصف الفيلم، يشعر انه فاقد الاهتمام تماماً باستكمال الفيلم، بل حتى يشعر انه فقد الاهتمام بفن السينما نفسه، مندفعاً في تلك اللامبالاة من داخله، ولكن أيضاً من صعوبة مجابهته العقبات الفنية والإدارية والإنتاجية التي راحت تتراكم في وجهه. وهكذا، في الوقت الذي يطالعنا فيه غويدو وهو يخوض صراعات لا تنتهي من اجل استكمال الفيلم كيفما اتفق، يعيش وحدته وسط ذكريات وعودات الى الماضي وأحلام تهاجم خيالاته وأفكاره. ويحدث غالباً على مدى مشاهد الفيلم ان يختلط هذا كله بالواقع اليومي الذي يعيشه، بحيث إنه يفقد حس التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو دخيل على حياته وأفكاره.

واضح إذاً اننا لسنا هنا امام حكاية عادية لها اول ووسط ونهاية، بل أمام سلسلة من «الأحداث» والمواقف والتداعيات التي أراد منها فلليني ان تعبر عن حقيقة الإبداع وتأزمه، لا سيما في مجال الفن السابع حيث نعرف، ان الانحباس الإبداعي لا يكون فردياً فنياً فقط، كما الحال حين يعجز شاعر عن استكمال قصيدته أو رسام عن إنجاز لوحته لتعقد ملكة الخلق لديه، بل انه هنا انحباس جماعي تتدخل فيه العناصر المادية الخارجية، أي بالتالي عناصر العلاقة مع الآخرين من منتجين يريدون أن يشاهدوا أموالهم وقد تحولت أفلاماً، وفنيين وتقنيين هم هنا ليؤدوا أعمالاً حرفية يقبضون مكافأة على أدائها قبل أن ينتقلوا الى عمل آخر. في «ثمانية ونصف» أوضح فلليني هذا كله وحرص على ألا يربط الأزمة الإبداعية بالمزاج الشخصي للمبدع، وإن كان هذا المزاج يلعب دوراً أساسياً. ومن الواضح ان من بين الأمور المهمة التي دنا منها فدريكو فلليني في هذا الفيلم، تميز فن السينما عن الفنون الفردية، بكونه، على إبداعيته الفردية، مسألة حرفية يطلب منها أن تنتج عملاً فنياً، في أوقات محددة وتبعاً لعقود قانونية، وفي رسم جمهور ينتظر أن يشاهد المنتوج في الموعد المحدد. بالنسبة الى فلليني، من المؤكد ان هذا البعد يتنافى مع حقيقة الفن وحرية الفنان. ومن هنا، وبكل اختصار تبدى الفيلم في النهاية سعياً الى تصوير عجز الفنان عن العثور على سعادته الخاصة وسط حياة صعبة مشتتة صارت ذات غائية مادية خانقة. وانطلاقاً من هنا، بات واضحاً أن «ثمانية ونصف» إنما صار فيلماً مناهضاً لنوع من الحداثة يحول الفن الى سلعة جماهيرية. والحقيقة انه اذا كان فلليني قد تحدث عن هذا البعد الأخير، بقوة في هذا الفيلم، متسائلاً عن حرية السينمائي في عالم المال والأرقام والأعمال، فإن الفيلم يبدو لنا اليوم أكثر اتساعاً من أن يقتصر حديثه على السينما وحدها، إذ نعرف اليوم ان هذا البعد المادي التشييئي للفن بات طاغياً. ولنتذكر، مثلاً، كيف أن كبار روائيي زمننا هذا، على رغم فردية الإبداع الروائي، باتت تربطهم عقود بدور النشر والتوزيع تلزمهم، وغالباً في مقابل مرتبات شهرية سخية، ونسب مئوية من الأرباح، على أن ينجزوا رواياتهم في تواريخ ومناسبات محددة.

إنه، إذاً، التشييء التام للإبداع الذي يشكل الموضوعة الأساسية لـ «ثمانية ونصف». ومع هذا، حين حقق فلليني هذا الفيلم، كان من الواضح انه لا يعبر عن هذا التشييء، الذي هو مفهوم فلسفي أولاً وأخيراً، إلا انطلاقاً من وعيه الباطن ومن حساسيته الفنية لا أكثر، هو الذي، في كل الحوارات المبكرة التي أجراها حول هذا الفيلم، كان يفضل أن يركز على بعده الأساس - بالنسبة اليه، كفيلم يحاول أن يعيد اختراع السيرة الذاتية في فن السينما. وهو نجح في هذا، لأنه في الحقيقة، كان هو نفسه يعيش في تلك الحقبة معاناة فنية حقيقية ويقف ليسأل نفسه: الى أين. ومع هذا لا بد من أن نشير هنا الى أن فلليني لم يكن ناوياً، أول الأمر، أن يجعل من فيلمه فيلم سيرة ذاتية، والدليل على هذا ان ثمة نسخة أولى من السيناريو تجعل من غويدو أنسلمي كاتباً يعجز عن إنجاز رواية يكتبها. وحين اكتشف فلليني ان ماستروياني لعب دور كاتب في فيلم كان زميله انطونيوني انجزه لتوّه، حول الشخصية الرئيسة الى مخرج سينمائي قائلاً: «لم يكن في وسعي أن أطلب من ماستروياني أن يلعب دور كاتب مرة ثانية. لو فعلت لخيّل إليه أنه كاتب بالفعل ولكتب رواية!».

حقق هذا الفيلم لمبدعه فدريكو فلليني (1920 - 1993) الفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي في عام عرضه، كما انه فاز عليه بجوائز عدة أخرى في أميركا وخارجها، وهو من ناحية زمنية يتوسط المسار الفني الإنتاجي لفلليني، الذي كان بدأ مساره أواخر سنوات الأربعين، ليحقق حتى العام الأخير من حياته سلسلة أفلام، من أبرزها: «الطريق» و «روما» و «آماركورد» و «ساتريكون» و «كازانوفا» و «الحياة اللذيذة»، أفلام حققت له شهرة عالمية جعلته واحداً من أساطين الفن السابع في تاريخ السينما.

 

المصدر: الحياة