لحظة «الكشف عن الحدّ والانتقال نحو الوجود الحيّ»: المشروع الحضاري بين هيغل ولينين (1)

لحظة «الكشف عن الحدّ والانتقال نحو الوجود الحيّ»: المشروع الحضاري بين هيغل ولينين (1)

في المادتين السابقتين تمت الإشارة إلى بعض أفكار سيرغي قره-مورزا وغرامشي حول مصير الحضارة الغربية من جهة، وحول عناوين مواجهتها. وفي المادة الحالية سنحاول، واقتباساً من لينين وهيغل، التوسع قليلاً في مسألة المشروع النقيض ومركزيته لحشد القوى ليس فقط لبناء القادم، بل في سياق المواجهة الجارية، التي يفعل فيها العنصر البشري دوراً أساس، حيث إن العنصر الجماهيري يجري تحويله إلى سلاح دمار شامل، أولاً، في سياق الاضطرابات السياسية الداخلية لكل دولة، وثانياً، للدفع باتجاه التعفن الحضاري ومأسسة البربرية. فالمشروع النقيض حالياً هو أداة أساسية للمواجة بمعناها الآني.

العقلاني في وجه التشيؤ

بما يخص النقاش حول الأزمة الحضارية والتشيؤ وضرب العقلانية كتعبير عن البربرية الممنهجة، فإن القاعدة المادية للمواجهة، أي لبناء قاعدة عقلانية، وحضارية نقيضة «حية، إبداعية، أصيلة»، لا يمكن إلا أن تكون في ممارسة جماعية للتعبير عن الإرادة الجماعية، في مواجهة الإرادات المشتتة والمبعثرة، لا كحركة «ثقافية قيميّة» بالمعنى الفوقي وحيد الجانب. وهذه الممارسة الجماعية اليوم يمكن أن يتم التعبير عنها لا فقط عبر الحزب الثوري/ «الأمير الحديث»، بل عبر الحركة الحضارية الحية التي يشترك «في تنظيمها» و«محرضاً عليها» قوى مختلفة، من بينها دول وتنظيمات. هكذا فقط تولد العقلانية، كنقيض للبربرية. ولهذا، فالحركة الحضارية النقيضة يجب أن تكون بالضرورة ممارسة سياسية «أسطورية» لبناء «أرقى وأشمل» من الوجود، هو الوجود الأممي، في لحظة انهيار «الواقع المعولم»، على أساس اقتصاد «جديد». ويسأل غرامشي: «هل الإصلاح الثقافي ممكن؟ ... لا بد أن يرتبط الإصلاح الثقافي والأخلاقي ببرنامج للإصلاح الاقتصادي. فالإصلاح الاقتصادي هو بالتحديد الشكل الملموس الذي يطرح أي إصلاح ثقافي وأخلاقي نفسه من خلاله. والأمير الحديث (الحزب الثوري/ المشروع الثوري) بتطوّره يثوّر نسق العلاقات الثقافية والأخلاقية برمته». وفي مواجهة دمار المشروع المعلوم، وبالتحديد الجانب الأخلاقي والقيمي والعقلاني، فالتثوير اليوم هو اقتراح مشروع أممي لتحقيق معنى وجود الإنسان الذي تم تفريغه من إنسانيته وتم تشييئه. فغياب المعنى (أو كما يسمّيه منظّرو المرحلة لأي جهة انتموا، أزمة المعنى، أو عصر المعنى) هو التعبير عن التشيؤ في مجال الإدراك والشعور، كما يختبره الإنسان. إذاً، فالمشروع الممارسي العقلاني النقيض هو تعبير عن الإنسان صانع تاريخه، نقيض «المشروع الفرداني الاستهلاكي». هو «إشراك الجماهير في إدراة الدولة» حسب تعبير لينين، ولكن هذه المرة، يتقدم هذا العنصر قبل بناء الدولة نفسها، بل في سياق بنائها. مجدداً، هذه هي المهمة المركزية على جدول الأعمال المتجاوز لحدود «القطرية» المأزومة، وعودة ضرورية لإنعاش الحركة الأممية في شكلها الحديث، أي، اشتراكية وأممية القرن الحادي والعشرين، صانعة العقل في وجه الجنون.

كيف تولد العقلانية في عملية الفعل التاريخي؟ عودة إلى الديالكتيك

من الضروري إعادة التأكيد على أن نقيض التشيؤ هو الفعالية الإنسانية ضمن السياق الزماني والمكاني، التي عبرها فقط يوجد الإنسان لا ككائن لذاته، بل لغيره، وللآخرين. وهذا يحيلنا إلى نقاش مسألة الكيف والنوع في الديالكتيك، وما يلي هو اقتباسات من ملاحظات لينين حول ديالكتيك هيغل الموجودة في دفاتر عن الديالكتيك التي دوّنها لينين كنصوص دراسية غير معدة للنّشر. يعلّق لينين مؤكداً على أهمية فكرة هيغل هنا: «الأشياء في ذاتها هي التجريد من كل تعيين (وجود للآخر) (من كل علاقة مع الآخر): أي، لا شيء. إذاً الشيء في ذاته «ليس سوى تجريد فارغ». هذا بالغ العمق، الشيء في ذاته وتحويله إلى الشيء لآخرين (أنظر إنجلز). الشيء في ذاته وحسب هو تجريد فارغ لا حياة فيه. في الحياة وفي الحركة، الكل وكل شيء هو «لذاته» وأيضاً «للآخرين»، في علاقة مع شيء آخر، يمضي باستمرار من حالة إلى أخرى» (انتهى الاقتباس من لينين).

وفي تناول تاريخي لأزمة الإنسان اليوم، ربطاً بأزمة الرأسمالية التي يبدو أنها وصلت إلى حدودها التاريخية عمقاً واتساعاً، وبلغة الديالكتيك، فإنها بوصولها إلى «حدّها»، تُدفع داخلياً، وبفعل منطق التناقض نفسه، إلى «ما بعد حدّها». وكذا هو إنسان هذه المرحلة/ الأزمة. بيّنا مسبقاً أن الحدود التاريخية للرأسمالية تفرض الدمار المادي والمعنوي والعقلي للإنسان. «الإنسان الرأسمالي» وصل إذاً إلى «حدّه» التاريخي. وهذا الوصول للحدّ هو إطلاق لفاعلية المعادلة «الانتقالية» (النافية): «إنها طبيعة المحدود نفسه أن يتجاوز نفسه، أن ينفي نفيه، وأن يصير غير محدود» (هيغل). ويعلّق لينين «ليست قوة خارجية هي التي تحوّل المحدود إلى اللامحدود، بل طبيعته ذاتها (المحدودة)».

هذه العودة للديالكتيك ليست فقط توظيفاً له في سياق النقاش، بل هي أيضاً مؤشر على أن جوهر المرحلة ينكشف اليوم، بفعل هذا الوصول إلى الحد التاريخي للبنية الرأسمالية. «محدود؟ إذن، متحرّك نحو الحدّ» (لينين معلقاً على نص هيغل). وهذا ما يفرض أن نقاشاً في «الجوهر» (جوهر الإنسان) وتحوله، وتجاوزه لحدوده الحالية (كإنسان لذاته فقط، إنسان ليبرالي الممارسة والعقل)، صار ملزماً. هذا الإلزام هو بسبب أن الظاهر (المقصود مختلف الظواهر والتعبيرات التي نراها في الحياة العقلية والنفسية والاجتماعية لإنسان اليوم) «كـتعيين» مباشر لهذا الجوهر (المفهوم المجرّد للإنسان الرأسمالي المغترب والمتشيء)، يكشف عن الجوهر أكثر، ويتقرّب منه. هذا الاقتراب يحصل بفعل التراكم الكمي الذي هو هنا المدى والعمق الذي وصل إليه نمط الحياة الرأسمالي في وضوحه كنمط استهلاكي-فرداني رافعاً الشعار ومثبتاً بالممارسة أن «الإنسان يوجد لذاته»، لا «للآخرين». فعند حدّ معيّن يفتح التراكم الكمي باب الانتقال النوعي «فـالانتقال، مثل الاتصال، هو لحظة من الكمّ» (هيغل).

إن انكشاف هذه المعادلة الرأسمالية المضادة للديالكتيك بشكلها الصريح في العقود الأخيرة، والتي تتضمنها شعارات مرحلة الفردانية (الذاتية) المتوحشة اليوم ونمط حياتها (تفسير السعادة والنجاح والنجاة، والتي تأخذ اليوم مساراً تأملياً مثالياً بعيداً عن الواقع، باتجاه العدمية)، هذا الانكشاف يفرض نقيضه الصريح أيضاً، ويكشف الحدّ الخاص بهذه المعادلة المثالية اللاحيّة(الميتة) حول الإنسان (التي تخلق الإنسان الميّت). هذا هو «واقع أننا بالضبط حين نعيّن شيئاً ما كحدّ، نذهب بذلك إلى وراء هذا الحد» (هيغل). وها نحن اليوم أمام هذا الحد، وأمام النفي الضروري العضوي له (من داخله وارتباطاً به).

نحن إذاً، أمام ضرورة الانتقال الكيفي والنوعي إلى النقيض الذي هو «الوجود لأجل الآخرين» (كنفي «للوجود لأجل الذات»، النموذج الذي حاولت الرأسمالية أن تبنيه، نموذجها الليبيرالي المتوحش خلال العقود الماضية). وعدم القيام بهذا التجاوز يعني أن النموذج الحالي «للوجود لأجل الذات» سيتدمر، فنكون أمام «اللامحدود السيء»، أي حصول النفي ولكنه نفي منفصل عن «المحدود» الموجود الراهن، لا النفي المرتبط به داخلياً. سنكون أمام انتقال للإنسان المأزوم نحو شيء آخر منفصل، ربما هو الإنسان البربري، الذي لا يربطه بالإنسان المأزوم شيء. سينتفي الإنسان المأزوم، ولكن نحو «اللا إنسان». فـ«بطبيعة الحال، ليس كل تجاوز للحدود تحرراً حقيقياً من الحدود» (هيغل).

عن المشروع الحضاري من جديد

ليس ما سبق إلا استعانة بالديالكتيك في شكله «الصافي»، من أجل نقاش ماهية المشروع الحضاري النقيض، الذي يحمل في صلبه وجوداً للإنسان الجديد الذي هو تجاوز للإنسان المحدود في وجوده لذاته. أي الإنسان الميّت. والإنتقال نحو الإنسان الحيّ، هو إرساء وجود الإنسان لأجل الأخرين. هذا يتطلب أولاً طرح هذا النقاش على شكل مشروع حضاري (أي الجانب «الحماسي التحريضي على مستوى الجذب والوعي»)، فهذا أول مدخل لكي يوجد الإنسان لأجل نفسه ولأجل الآخرين، وهذا المشروع يجب أن يتضمن القاعدة الممارسية لهذا الوجود لأجل الآخرين، أي الجانب التنظيمي الإنتاجي الحياتي اليومي. أي الإجابة عن سؤال كيف يجب أن يشترك إنسان اليوم في «تقرير مصيره» و«إدارة الدولة» وما هو الشكل المؤسساتي لذلك.

كل ابتعاد عن هذا النقاش الملحّ هو لعب مؤقت، دفاعي، على أرضية الوجود المأزوم لنمط الحياة الميّت الذي ينتمي إلى حدود الرأسمالية، واغترابها، وإفلاسها. وهذا ما يسمح لقوى العالم القديم بتوظيف نتائج الأزمة الوجودية لصالح برامجها المعادية لتدمير كل جانب مؤسسي سياسي واجتماعي وعقلي- روحي باتجاه البربرية. فالتوازن العسكري والاقتصادي مع القوى الصاعدة، يفتح الباب أمام تعظيم المستوى الأيديولوجي- الثقافي، الذي كان يجري التأسيس له خلال العقود الماضية، حيث صار عقل الليبرالية «قوة مادية حين صار عقل الجماهير». وفي المادة اللاحقة سنمرّ على بعض أفكار لينين في مسألة «إشراك الجماهير في إدارة الدولة» الذي لها دور حاسم في تقرير مصير التجربة، وهنا اليوم، البشرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1129
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:43