«داريو فو» يقف ساخراً: «جعلتهم مضحكة العالم»!
أحمد علي أحمد علي

«داريو فو» يقف ساخراً: «جعلتهم مضحكة العالم»!

دائماً ما كان الكاتب المسرحي الإيطالي داريو فو مثار جدل واسع في الأوساط الثقافية - الأدبية العالمية والعربية. وبين الفينة والأخرى يجد النقّاد مناسبة لفتح النقاش من جديد حول أعمال هذا الكاتب وقيمه وأسلوبه وطريقته في البناء المسرحي، وعلى الدوام يجري ذلك بالتزامن مع تقديم عروض جديدة له. ولا يغيب عن وجهات نظر النقّاد، المدح الشديد، والنقد اللاذع الذي يصل حدود إنكار القيمة الثقافية والفكرية لهذا الكاتب المهمّ.

عرض جديد يفتح المعركة

ومن جديد، كان عرض مسرحية «بدفع ما بدفع»؛ العرض الذي أعدّه وأخرجه المخرج الأردني عبد السلام قبيلات، وقدّمه على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، مفتاحاً لعودة النقاش والجدال القديم – الجديد حول الكاتب الشيوعيّ داريو فو، ومكانته في الأدب العالميّ.

يجد المتابع أن ما يتربّع عرش محطات النقد اللّاذع عند الكتّاب والنقّاد، هو اعتبار الكاتب اليساري الماركسي داريو فو «مهرّجاً» لا أكثر، ولا يرقى بأعماله لمعالجات جديّة للقضايا الاقتصاديّة - الاجتماعيّة والسياسيّة القديمة والراهنة. وللعلم فإن داريو فو الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1997 كان قد سخر سخرية كبيرة لحظة تسلّمه الجائزة لكون تكريمه جاء على أساس كونه أفضل «مهرّج» ضمن مجموعة المهرّجين الذين «يشهّرون بالناس ويشتمونهم»!

«داريو فو» ساخراً!

لذا وكما يبدو عليه الأمر، فإن هذا الوسم لداريو فو ليس وسماً عابراً أو صدفيّاً، بل هو نهج مقصود، وقد حاولت لجنة نوبل النرويجية تكريسه من خلال منحه الجائزة على هذا النحو الذي فاجأ الجميع حينها، حتى داريو فو نفسه. وهو لا ينكر كونه يمارس فعل التهريج الكوميدي خلال أعماله لكن حول ذلك يقول بأن ثاني إنجازاته في الحياة هو أنه رفع التهريج إلى مرتبة الأدب بخلاف غيره ممّن استندوا إلى هذه الأداة في العمل المسرحي. وعن إنجازه الأوّل يقول: «كنت شوكة في خاصرة الفاشيين واليمينيين.. جعلتهم مضحكة العالم».

وعلى ما يبدو، قد وجد بعض الكتّاب والنقّاد ضالّتهم بهذا الوسم ليتوّلوا بعد ذلك الأمر في محاولات التقليل من أهميّة «فو» وتكريسه بوصفه مهرّجاً كبيراً كمحاولة للالتفاف على ما يقّدم. وفي الحقيقة، لهذا الوسم أو القول معانيه التي تذهب بعيداً عن كونها توصيفاً أو نقداً من باب أدبيّ صرف؛ معانٍ يتداخل فيها النقد الأدبيّ مع المعركة الفكريّة الواسعة، القديمة، والمحتدمة في هذه الأيام، حول النظام الاقتصاديّ – الاجتماعيّ القائم وبدائله.

جوهر الأمر

لا نعتقد أن ما يجري عالميّاً من تغيّرات كبرى تطال كل ما جرى التعاطي معه سابقاً بوصفه حالة أبديّة لا يطالها الزمن ولا الأيام؛ بغائب عن القارئ. يعلم القارئ اليوم أن الصّراع على أشدّه حول القضايا الكبرى المرتبطة بالرأسمالية كمنظومة سائدة الآن وأزماتها ومشكلاتها، وأن هناك تساؤلات كبرى حول قدرة الكوكب والبشريّة على الاستمرار في ظلّ الوضع القائم. ويعلم أيضاً أن مثل هذا الحديث تجاوز حدوده السابقة حول إمكانية إصلاح المنظومة، ليصل اليوم إلى نقاش البدائل واستعجال الحلول الجذرية.

من هذا الباب الواسع بالتحديد، يمكن الولوج إلى قلب وجوهر النقاشات الأدبيّة المحتدمة حول الكتّاب والأدباء الذين دأبوا على طرح القضايا الأساسيّة، والتي تمسّ الإنسان ومشكلاته وهمومه بصورة مباشرة لا مواربة فيها ولا كذب ولا زيف؛ القضايا التي طالت بسهامها المنظومة الرأسمالية القائمة وقوانينها وآليات عملها ونظرياتها وقيمها ومبادئها.

ومن هنا، يصبح من المفهوم أن النقد اللاذع الموجّه لداريو فو هدفه في العمق هو نقد ما يمثله من أفكار ومبادئ وقيّم بديلة كان يسعى إلى تكريسها ورسمها بمواجهة العالم الرأسماليّ المتوحّش، سعياً منه باتجاه إنهاء هذا العالم، وبناء عالم جديد يحيا فيه الإنسان حياة لا ذلّ فيها ولا مهانة ولا فقر؛ حياة عنوانها المساواة والعدالة الاجتماعية.

«تهمة الشيوعيّة» حاضرة!

كان «فو» في حياته شديد الانتقاد للسياسات الرأسماليّة والأنظمة السياسيّة الحاكمة في العديد من الدول الغربيّة. وهذه الرؤية السياسيّة المعلنة جعلته موضوعاً للهجوم والانتقاد من قبل كتّاب وجهات تتبنّى رؤى نقيضة ومختلفة خلال القرن الماضي، وكانت «تهمة الشيوعيّة» هي الأساس في كثير من الأحيان لهذا الهجوم؛ إذ اعتبر هؤلاء النقاد أن أعمال «فو» تميل إلى تحييد الحقائق وتحوير الواقع. وكما يبدو فإن هذا السلوك ما زال ممتداً حتى اللحظة، ويجد من يحمله داخل الأوساط الثقافية في العالم العربي.

ما يمّيز مسرحيات داريو فو (1926-2016) التي تصنّف بكونها مسرحيات شعبيّة كوميديّة، هي أنها مسرحيات يمكن تبيئتها لتناسب شعوباً وبلداناً أخرى بعيداً عن إيطاليا، وهذا ما كان دافعاً دائماً باتجاه إعادة إنتاجها وتقديمها من جديد. أمّا داريو فو نفسه فقد تميّز أسلوبه بالقدرة العالية على الهجوم والدفاع عبر السخريّة والنقد اللّاذع عن قضايا الإنسان الاجتماعيّة والسياسيّة. يضاف إلى هذا أسلوبه السردي الذي مزج بين الأدب والسياسة بشكل جريء ومبتكر. وبالمقارنة مثلاً مع الكتاب المسرحيين المعاصرين له، أمثال أرثر ميلر وصموئيل بيكيت وهارولد بينتر، فإن أسلوب «فو» السردي استمدّ قوته من التجارب الإنسانية اليوميّة والتحليل الاجتماعي العميق، بينما اتّجهت أعمال الكتاب الآخرين نحو التركيز على القضايا الفلسفية والوجودية.

وبينما كان أرثر ميلر يركّز على طرح قضايا الهوية والصراع الداخلي والعائلي في مجتمعه، كما في مسرحيته الشهيرة «موت بائع متجول» على سبيل المثال، كان «فو» يعالج القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى بوجه عام، ويستخدم المسرح كوسيلة للتوعية والنقد الاجتماعي. وذلك في الوقت الذي انشغل فيه صموئيل بيكيت، الذي يصفه البعض بكونه «بطل الدراما الوجودية» باستخدام المسرح كوسيلة للتعبير عن اليأس والعبثيّة، كما في مسرحيته ذائعة الصيت «انتظار غودو».

على أيّة حال، فإن الجدل القائم حاليّاً حول داريو فو، هو مؤشر على أهمية وجذريّة ما يحمله من أفكار وقيّم. وعلى الرغم من وجود الكثير من الملاحظات التي يمكن أن يسجلها المشاهد للعروض التي قدّمت في سورية لأكثر من مخرج؛ فإن أعمال داريو فو حافظت على قيمتها في هذه العروض، ودائماً ما كانت نوافذ ضوء تسمح بالنظر بعيداً وعميقاً بقضايا الاستغلال والظلم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وتفتح الآفاق أمام مواجهتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1130
آخر تعديل على الإثنين, 10 تموز/يوليو 2023 22:17