الأساس الطبقي للإيديولوجيا وكيف تجري التعمية عليه

الأساس الطبقي للإيديولوجيا وكيف تجري التعمية عليه

تحت عنوان «الطبقة السائدة والأفكار السائدة» كتب ماركس وإنجلس في مؤلّفهما المشترك «الإيديولوجيا الألمانية» بأنّ «أفكار الطبقة السائدة تكون في كل عصر هي الأفكار السائدة، أي إنّ الطبقة التي هي القوة المادية الحاكمة للمجتمع، هي في الوقت نفسه القوة الفكرية الحاكمة»، وذلك لأنّ «الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج المادي تحت تصرفها، تتحكم في الوقت نفسه بوسائل الإنتاج الذهني».

تعتبر هذه الموضوعة من الأسس الكلاسيكية في الفهم الماركسي للمصدر المادي والطبقي للاتجاهات الثقافية والفكرية والأخلاقية المختلفة والمتناقضة في المجتمع (أي للأيديولوجيا عموماً)، وما زالت ذات أهمية معاصرة طالما نعيش في مجتمعات طبقية، رغم أنّ كتاب ماركس وإنجلس «الإيديولوجيا الألمانية» (1846) بقي مخطوطاً، ولكنهما ضمّنا كثيراً من أفكاره في مؤلفات لاحقة، وتركا المخطوطة لـ«نقد الفئران القارض» بحسب وصفهما.
ويتابع المؤلفان أنه: «بشكل عام، تخضع للطبقة السائدة أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج العقلي. الأفكار السائدة ليست أكثر من تعبير مثالي عن العلاقات المادية المهيمنة، التي يتم استيعابها كأفكار؛ ومن هنا تأتي العلاقات التي تجعل طبقةً ما هي الحاكمة، وبالتالي، تهيمن أفكار. إنّ الأفراد المكونين للطبقة السائدة يمتلكون من بين أمور أخرى الوعي، وبالتالي يفكرون. وبقدر ما يحكمون كطبقة ويحددون مدى وبوصلة حقبة ما، فمن الواضح أنهم يفعلون ذلك في نطاقه الكامل، ومن ثم يحكمون، من بين أمور أخرى، كمفكرين ومنتجين للأفكار وينظِّمون إنتاج وتوزيع أفكار عصرهم: وبالتالي فإنّ أفكارهم هي الأفكار الحاكمة للعصر. على سبيل المثال، في عصر وفي بلد تتنافس فيه السلطة الملكية والأرستقراطية والبرجوازية على السيادة وحيث يتم، بالتالي، تقاسم السيادة، يثبت مبدأ الفصل بين السلطات على أنه الفكرة السائدة ويتم التعبير عنه على أنه «القانون الأبدي».

دور تقسيم العمل

«يتجلى تقسيم العمل... كواحد من القوى الرئيسية للتاريخ حتى الآن، في الطبقة الحاكمة أيضاً كتقسيم للعمل العقلي والمادي، بحيث يظهر جزء واحد داخل هذه الطبقة كمفكرين لـلطبقة (أيديولوجيّوها النشطون والمفاهيميّون، الذين يجعلون إتقان وهم الطبقة عن نفسها مصدر رزقهم الرئيسي)، بينما يكون موقف الآخرين تجاه هذه الأفكار والأوهام أكثر سلبية وتقبلاً، لأنهم في الواقع هم الأعضاء النشطون في هذه الفئة ولديهم وقت أقل لاختلاق الأوهام والأفكار عن أنفسهم. داخل هذه الفئة، يمكن أن يتطور هذا الانقسام إلى معارضة وعداء معيَّنَين بين الجزأين، والذي- مع ذلك- في حالة الاصطدام العملي، حيث تتعرض الطبقة نفسها للخطر، يتلاشى... وكأنما الأفكار الحاكمة لم تكن أفكار الطبقة السائدة ولديها قوة متميزة عن قوة هذه الطبقة. يفترض وجود الأفكار الثورية في فترة معينة وجود طبقة ثورية...»
«إذا كنا الآن عند النظر في مسار التاريخ نفصل أفكار الطبقة السائدة عن الطبقة السائدة نفسها وننسب إليها وجوداً مستقلًا، إذا اقتصرنا على القول بأن هذه الأفكار أو تلك كانت سائدة في وقت معين، دون إزعاج أنفسنا. حول ظروف الإنتاج ومنتجي هذه الأفكار، إذا تجاهلنا الأفراد والأوضاع العالمية التي هي مصدر الأفكار، فيمكننا القول، على سبيل المثال، إنه في الوقت الذي كانت فيه الطبقة الأرستقراطية هي المهيمنة، كانت مفاهيم الشرف، والولاء، وما إلى ذلك، سائدة. وأثناء هيمنة البرجوازية سادت مفاهيم الحرية، والمساواة، وما إلى ذلك. وهكذا تتصور الأمر أيضاً الطبقة الحاكمة بشكل عام. هذا المفهوم للتاريخ، الذي يشترك فيه جميع المؤرخين، ولا سيّما منذ القرن الثامن عشر، سيواجه بالضرورة ظاهرة سيطرة الأفكار المجرَّدة بشكل متزايد، أي الأفكار التي تتخذ شكل العمومية بشكل متزايد. لأنّ كلّ طبقة جديدة تضع نفسها في مكان طبقةٍ سادت قبلها، فتكون مجبرة، فقط من أجل تنفيذ هدفها، على تقديم مصلحتها وكأنها المصلحة المشتركة لجميع أفراد المجتمع، أي يتم التعبير عنها في شكل مثالي: يجب أن تعطي أفكارها شكل العمومية، وتمثلها على أنها الأفكار العقلانية الوحيدة الصالحة عموماً. وتظهر الطبقة التي تصنع الثورة منذ البداية، فقط لأنها تعارض طبقة أخرى، ليس كطبقة بل كممثلة للمجتمع بأسره؛ فيبدو أن كل جماهير المجتمع تواجه الطبقة السائدة الواحدة... وهي يمكنها أن تفعل ذلك، لأن مصلحتها، في البداية، مرتبطة حقاً أكثر بالمصالح المشتركة لجميع الطبقات غير السائدة الأخرى، لأنه تحت ضغط الظروف القائمة حتى الآن، لم تتمكن مصلحتها بعد من التطور باعتبارها مصلحة خاصة من فئة معينة. وبالتالي، فإن انتصارها يفيد أيضاً العديد من الأفراد من الطبقات الأخرى التي لا تفوز بمركز مهيمن، ولكن فقط بقدر ما تضع هؤلاء الأفراد الآن في وضع يسمح لهم برفع أنفسهم إلى الطبقة السائدة. عندما أطاحت البرجوازية الفرنسية بسلطة الطبقة الأرستقراطية، جعلت من الممكن للعديد من البروليتاريين أن يرفعوا أنفسهم فوق البروليتاريا، ولكن فقط بقدر ما أصبحوا برجوازيين. وبالتالي، فإنّ كل طبقة جديدة لا تحقق هيمنتها إلا على نطاق أوسع من تلك التي كانت تتمتع بها الطبقة السائدة قبلها، في حين أن معارضة الطبقة غير السائدة ضد الطبقة السائدة الجديدة تتطور لاحقاً بشكل أكثر حدة وعمقاً. كلا الأمرين يحدّدان حقيقة أنّ النضال الذي يجب خوضه ضد هذه الطبقة السائدة الجديدة، يهدف بدوره إلى إنكار أكثر حزماً وجذريّةً لظروف المجتمع السابقة أكثر مما يمكن لجميع الطبقات السابقة التي سعت إلى الحكم أن تفعله».
«هذا المظهر برمته، المتجلّي في أنّ حكم طبقة معينة هو فقط قاعدة لأفكار معينة، يصل إلى نهاية طبيعية بالطبع بمجرد أن يتوقف الحكم الطبقي بشكل عام عن اتخاذ الشكل الذي يتم فيه تنظيم المجتمع، يعني بمجرد أنه لم يعد من الضروري تمثيل مصلحة معينة باعتبارها عامة أو تمثيل «المصلحة العامة» بوصفهاً حاكمةً، أي بمجرد فصل الأفكار السائدة عن الأفراد السائدين، وقبل كل شيء، عن العلاقات التي تنتج عن مرحلة معينة من نمط الإنتاج، وبهذه الطريقة يتم التوصل إلى الاستنتاج بأن التاريخ دائماً ما يكون تحت تأثير الأفكار، من السهل جداً استخلاص «الفكرة»... إلخ من هذه الأفكار المتنوعة باعتبارها القوة المهيمنة في التاريخ، وبالتالي فإن فهم كل هذه الأفكار والمفاهيم المنفصلة على أنها «أشكال محدَّدة لذاتها» من جانب مفهوم التطور في التاريخ».

كيف يصبح أساس الأفكار المادي غامضاً

يترتب على ذلك بطبيعة الحال أيضاً أن جميع العلاقات بين البشر يمكن أن تُشتق من مفهوم الإنسان، الإنسان كما هو مفهوم، أي جوهر الإنسان. تم القيام بذلك من قبل الفلاسفة التأمّليّين. ويعترف هيغل نفسه في نهاية «فلسفة التاريخي» بأنه «اعتبر تقدم المفهوم فقط» والمثل في التاريخ «الثيودسي الحقيقي».. الآن يمكن للمرء أن يعود مرة أخرى إلى منتجي «المفهوم»، إلى المنظرين والأيديولوجيين والفلاسفة... وهكذا فإن الحيلة الكاملة لإثبات هيمنة الروح في التاريخ تقتصر على الجهود الثلاثة التالية...
أولاً: يجب على المرء أن يفصل بين أفكار أولئك الذين يحكمون لأسباب تجريبية، في ظل ظروف تجريبية وكأفراد تجريبيين، عن هؤلاء الحكام الفعليين، وبالتالي الاعتراف بحكم الأفكار أو الأوهام في التاريخ.
ثانياً: يجب على المرء أن يجلب نظاماً في قاعدة الأفكار هذه، ويثبت وجود صلة غامضة بين الأفكار الحاكمة المتعاقبة، والتي تتم إدارتها من خلال فهمها على أنها «أفعال لتقرير ذاتي من جانب المفهوم» (هذا ممكن لأنّها وبحكم أساسها التجريبي تكون هذه الأفكار مرتبطة حقاً بعضها ببعض، ولأنها عند تصورها على أنها مجرد أفكار، فإنها تصبح تمييزاً ذاتياً، وتمييزات صنعها الفكر).
ثالثاً: لإزالة المظهر الغامض «لمفهوم التقرير الذاتي» هذا يتم تغييره إلى شخص – إلى «وعي ذاتي» - أو لكي يبدو مادياً تماماً، يتم تغييره إلى سلسلة من الأشخاص الذين يمثلون «المفهوم» في التاريخ؛ إلى «المفكرين»، «الفلاسفة»، الأيديولوجيين، الذين يُفهمون مرة أخرى على أنهم صانعو التاريخ، على أنهم «مجلس الأوصياء»، باعتبارهم الحكّام. وهكذا تمت إزالة الكتلة الكاملة من العناصر المادية من التاريخ ويمكن الآن إطلاق العنان بالكامل لِفَرَس التأمُّل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1119
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 22:13