الفوضى و«سفسطائيو الزمن الوحل»!
إليكم ما حدث في أحد الأيام. ذات مرة، وأثناء انتظار معتمد الخبز على مسافة من الحشد المجتمع، حصل أمر يتكرر كثيراً في هذه البلاد. مع وصول سيارة الخبز وبدء عملية قطع البطاقات والتوزيع، وسط تدافع الناس التي أرهقها الانتظار؛ انتفض أحد الشبان معبراً عن سخطه من فوضوية الناس وسلوكهم غير المنظم. ولم يخلُ خطابه التوعوي من عبارات كالتالي: (أيمت بدكن تصيروا بشر؟) (صفو بالدور يا..) (على مهلكن يا..)، وغيرها من الشتائم الكثيرة التي أعتاد الشعب على سماعها في وصفه من أبسط الناس إلى كبار مستثقِفيهم، وأدار ظهره لها ولهم.
وحقّاً هذا ما حدث، فلم ينبس أحد من الحاضرين - بما فيهم كاتب هذه السطور- ببنت شفة واحدة رداً على الكلام المسيء، حتى أن الجمع لم يعر الشاتم نظره.
«بعيداً عن ملامة الناس»
يشعر المرء بالإهانة حقاً حيال كلام وسلوك من هذا القبيل، لكن السؤال هنا هل ينبغي الاندفاع لمحاولة إسكات «فيلسوف الزمان» القائل، والخوض في تفاصيل ما يقول؟ ربما، ويمكن تجاهل كلامه والمضي قدماً أيضاً.. لكن الأهم، هو محاولة تفسير هذا السلوك وفهمه بعيداً عن شتم الناس وتوجيه الملامة لها كما درجت العادة.. هي فرصة ليسأل المرء ذاته: «ليش نحنا هيك»؟ هل خلقت شعوبنا فوضويةً بالفطرة؟!
من الضروري التوضيح في البداية أن النقد الذي سيوجّه هنا هو للخطاب والسلوك الذي يشاهده ويسمعه السوريون كثيراً في حياتهم، وليس لشخص الحادثة الذي ينتمي إلى أبناء هذا الشعب الذي يشتمه، والذي تطاله شتيمة هذا الشعب قبل أن تطال غيره.. صاحب السلوك في حكايتنا وأمثاله هم من بسطاء العامّة المقهورة والمغلوبة على أمرها، والتي لا تلام لأنها نتيجة وضحيّة سياسات الفقر والتجهيل والتهميش التي تحكم البلاد منذ عقود طويلة، وهذا أقل ما يقال في الأمر.
«سفسطائيو الزمن الوحل»
لكن المؤسف حقيقة هو أن يسمع المرء ويشاهد بأمّ عينه هذا السلوك ذاته وهذا الخطاب عند من يقدّمون أنفسهم بوصفهم مثقفين وأصحاب رأي ومعرفة. هؤلاء يحتار المرء بأي وصف يصفهم حقّاً.
لهؤلاء نقول: لا بأس، وكما تشاؤون، نحن العامّة، البسطاء، فقيرو العقل قليلو الحكمة لذا فلن نجيب عن السؤال السابق: «ليش نحنا هيك»؟ بل سنسأل سؤالاً آخر: «إذا ما كان في فوضى كيف بدو يكون القمع مُبَرّر»؟! وسنترك الإجابة لكم يا «أصحاب العقل والعلم» يا «سفسطائيي الزمن الوحل»!
في هجومه على سفسطائيي أثينا، ميّز أفلاطون بين فئة السفسطائيين، وفئة السياسيين، وفئة الفلاسفة، وما كان يريده من تمييزه هذا، هو القول بإن هؤلاء السفسطائيين ليسوا سياسيين، ولا مفكرين، ولا هم بفلاسفة. أمّا «سفسطائيو الزمن الوحل» خاصتنا فهم ليسوا سفسطائيين ولا سياسيين ولا مفكرين لكنهم يحاولون لعب دور هؤلاء الثلاثة بآن معاً.
«الدونية تجاه الغرب»
ويستند أغلبية هؤلاء في توصيف الشعب السوري على فكرة أساسها مقارنة هذا الشعب مع شعوب أخرى، وبالأخص الشعوب الغربية، ليقولوا لنا: «انظروا إلى مستوى تنظيم تلك الشعوب ورتابتها وأناقتها وعدم فوضويتها، تلك شعوب تليق بهم الحياة حقّاً، أمّا أنتم فلا يليق بكم سوى النيزك، أنتم لستم شعباً، أنتم...».
لا جديد في هذا، هي ذاتها النظرة المتخلّفة الدونيّة تجاه الغرب، تلك النظرة التي لا يكلّ ولا يمّل هؤلاء من تكرارها بنسخ كربونية متشابهة منذ عقود. الأهم في الأمر، بأن هؤلاء وبخلاف بسطاء العامّة، لا ينتمون إلى أي شعب، بل فقط ينتمون إلى ذواتهم الفردية التي تقبع في أعالي الأبراج العاجيّة خاصتهم، الأبراج التي لا تشوبها شائبة، ولا تدنسها دَنِيّة.
على أيّة حال؛ الأفضل ألّا نطيل الحديث عنهم، وأن ننتقل إلى مستوى آخر من الحديث؛ المستوى الذي يجب أن يسأل المرء عنده نفسه عن منبت هذه الفوضى العارمة المنتشرة ومصدرها وأبعادها؟
«مصدر الفوضى وأبعادها»
ولتوضيح الإجابة، وفهم القصد؛ نقول ببسيط العبارة: التنظيم خطر، خطرٌ حقيقي على أعداء الشعب المتمثلون بقوى النهب والفساد الكبير في الداخل، خطرٌ على هؤلاء المنظمين أشدّ التنظيم، والذين لا يوفرون جهداً في تقسيم هذا الشعب وتفتيته وتذريره. ولذلك فإن الفوضى ضرورة لهم ولاستمرارهم، واستمرار هيمنتهم، وتقتضي هذه الضرورة ألّا يعتاد هذا الشعب على أي نوع من أنواع التنظيم في هذه البلاد، بل أن يعتاد على الفوضى، وأن يقيّم نفسه عبرها ومن خلالها على الدوام.
وتنسحب هذه الضرورة (الفوضى) على كلّ شيء في أفقهم؛ من أدنى أشكالها ومستوياتها؛ كأن يتنظّم الناس على طابور من الخبز أو الغاز أو غيرهما، إلى أعلى المستويات؛ كأن يتنظّم هذا الشعب تحت قبّة جامعة تسعى إلى تغيير واقعه تغييراً جذرياً، يجد فيها نفسه وأهله وناسه الذين تجمعهم وحدة الحال قبل أيّ شيء آخر.
الفوضى ضرورتهم ومبرّر قمعهم، تلكم هي الحقيقة، ولهذا فإن التنظيم ضرورتنا الماسّة والتي لا غنى لنا عنها حتى نتمكّن من ليّ عنقهم وعنق ضرورتهم. ولذا فلنعمل على ذلك بكل ما نمتلك من شدّة وبأس وصلابة حتى لا يكون لهم لا حول ولا قوة ولا أمر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1115