التثقيف العضوي للكادحين من منظور غرامشي
ناجي النابلسي ناجي النابلسي

التثقيف العضوي للكادحين من منظور غرامشي

«إنّ الاشتراكية هي تنظيم، ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، بل وأيضاً، وعلى وجه الخصوص، تنظيمٌ للمعرفة والإرادة يُحَصَّلُ عبر نشاطٍ ثقافيّ» (غرامشي، جريدة «صرخة الشعب»، 31 آب 1918).

في كتابه «الهيمنة والثقافة في ظلّ الليبرالية الجديدة، تَبصُّرات من غرامشي» (2015)، يتناول المؤلِّف، بيتر مايو، عدداً من المواضيع المتعلّقة بالنظرة الثورية لغرامشي لأهمية المجال التربوي-التعليمي خصوصاً، والتثقيفي عموماً، في نضال الطبقة العاملة والكادحين من أجل «الهيمنة» والظفر بالمستقبل الاشتراكي، عبر رفع معرفتهم ووعيهم السياسي وتنظيمهم. ويناقش الكاتب أهمية أفكار وعمل غرامشي، وخاصة مفاهيمه حول «المثقف العضوي والتقليدي» و«حرب المواقع» وتطبيقاتها لفهم تحوّلات الصراع الطبقي ثقافياً في ظلّ الرأسمالية وخاصة بنسختها الليبرالية الجديدة. فالليبرالية الجديدة كنسخة خاصة من الرأسمالية جاءت أيضاً بمشروعها الثقافي والتربوي والتعليمي الذي يخدّم مشروعها الاقتصادي-السياسي، واستعملت النيوليبرالية أدواتها الثقافية لتشكيل وتحويل المجتمعات وقولبتها على شاكلة صورتها الهزيلة لعلاقات السوق الرأسمالية المتوحّشة. وما تزال المقاومة ضدّها وضدّ تعاليمها تتزايد عبر العالم، مع لعب الأحزاب التقدّمية والحركات العمالية والنقابية والطلاب التقدّميّين في المدارس والجامعات دوراً مهماً في فضح الإفلاس السياسي والأخلاقي والتربوي-التعليمي للّيبرالية الجديدة.
اهتمّ غرامشي بمجال تربية وتعليم الكبار البالغين وتثقيفهم، بوصفه ميداناً حاسماً من «المجتمع المدني»، رأى أنه يلعب دوراً مهمّاً في «حرب المواقع»، على مستوى تربية الكبار ضمن الحركات التي تتحدّى الواقع الرّجعيّ القائم.
وانخرط غرامشي شخصياً في هذه العملية التربوية-التثقيفية كجزءٍ من نشاطه في الحزب الاشتراكي ثمّ الشيوعي الإيطالي، وكتب عن طرائق بديلة للتربية والتعليم والتعلُّم تتكامل مع «المدرسة النقابية» أو «الاتحادية» التي اقترحها بنفسه للتوعية بمصالح الطبقة العاملة الإيطالية. وبحسب غرامشي كان المقصود من «مجالس المصانع» أن تقدّم الوسائل التي تستطيع البروليتاريا بواسطتها أنْ «تثقّف نفسها، وتلتقط الخبرة وتكتسب إدراكاً مسؤولاً للواجبات الملقاة على عاتق الطبقات التي تمسك بسلطة الدولة»، بحيث تكون خطوةً مهمّة للطبقة العاملة نفسها باتجاه «ممارسة القيادة قبل الظفر بسلطة الحكم». ومن خلال «التعاون بين العمّال اليدويّين والعمّال المَهَرة والموظّفين الإداريين والمهندسين والمديرين الفنّيين» يمكن للعمّال تكوين خبرة عن «وحدة العمليّة الصناعية» وأن يروا في أنفسهم «جزءاً لا يتجزأ من منظومة العمل ككلّ، التي تتركّز في المنتوج المصنوع». ويقول غرامشي: «عند هذه النقطة يصبح العاملُ منتِجاً، حيث يكتسب إدراكاً لدوره في عملية الإنتاج على جميع المستويات، من الورشة إلى الأمة إلى العالَم».

فضاءاتٌ لتثقيف الكبار

أشار غرامشي إلى فكرة أنّ المواقع المختلفة للممارسة الاجتماعية يمكن تحويلها إلى مواقع لتعليم الكبار. وبوصفه منظِّماً ومربّياً لا يكلّ ولا يملّ، لم يكن غرامشي يترك أيّ مكانٍ دون أنْ يستكشف إمكانية الاستفادة منه لتثقيف أعضاء الطبقات «المُستَضعَفة». ومن بين هذه الأماكن مساحاتُ الإنتاج الصناعي، والتي وفقاً لغرامشي يجب تدعيمها بمراكز ثقافية، ومنها على سبيل المثال مركزٌ ساهم غرامشي بتأسيسه تحت اسم «نادي الحياة الأخلاقية» Club di Vita Morale عام 1917، حيث كان يجتمع فيه العمّال للقراءة وتقديم المحاضرات لبعضهم البعض. ومن الأمثلة الأخرى «معهد الثقافة البروليتارية» في إيطاليا الذي تمّ استلهامُه آنذاك من تجربة مركز «بروليت-كالت» الروسي، والمجموعة المرتبطة بصحيفة «كلارتي» الفرنسية والتي تضمّنت شخصيّات مثل رومان رولاند وهنري باربوس.
وأشار غرامشي في صحيفة الحزب الشيوعي الإيطالي «النظام الجديد» إلى أمثال هذه التجارب الأولى لـ«مدارس عمّالية» مشيداً بإقبال العمّال عليها على الرغم من تعبهم بعد يوم العمل. وساهم غرامشي الشابّ شخصياً، عام 1916، ولا سيّما في فترة انخراطه الباكر بالعمل الصحفي، بتنظيم حلقات دراسية للعمّال في مدينة تورين (التي كان غرامشي يعتبرها بمثابة بتروغراد إيطاليا). ومن المواضيع التي تناولها في تلك الحلقات، التعريف بالماركسية وكومونة باريس والثورة الفرنسية وغيرها. وحتى بعد سجنه من قبل نظام موسوليني الفاشي، تحدّى غرامشي قيود السجن، فساهم إلى جانب أميديو بورديغا وآخرين، في تأسيس مدرسة في سجن أوستيكا، كان فيها معلّماً وتلميذاً في آن معاً. وفي رسالة إلى (بييرو صرافا Piero Sraffa) بتاريخ 2 كانون الثاني 1927 يذكر غرامشي مستويات الصفوف المختلفة التي تمّ تنظيم مدرسة السجن وفقها، والتي ضمّت أشخاصاً من مختلف الخلفيات، بعضهم شبه أميّين، وكان هناك مستويان لدراسة اللغة الفرنسية ودورة بالألمانية. وفي سجن أوستيكا تمكّن غرامشي من دراسة اللغتين الألمانية والروسية إلى جانب الاقتصاد والتاريخ (وفق ما كشف في رسالة إلى تانيا بتاريخ 9 كانون الأول 1926).

الدور التربوي للجريدة الحزبية

كانت جريدة الشيوعيين الإيطاليين «النظام الجديد» Ordine Nuovo تقدّم مراجعات في الثقافة الاشتراكية وتلعب بالتالي دوراً مهماً كمصدر للمعلومات والتعليم للبالغين. وشكّلت وسيلةً لتقديم تحليلٍ للمنتوجات الثقافية في عصرها من وجهة نظر الطبقة «المُستَضعَفة» التي تسعى الجريدة إلى التعبير عن مصالحها. فكانت مقالات الجريدة موجّهةً لتكون وسيلة مهمّة في مساعدة العمّال الإيطاليين، في تورين خاصةً، في أنْ يفهموا الثقافة السائدة فهماً نقدياً ويقوموا بتوظيفٍ نقديّ لبعض عناصرها بما يفيد مصالحهم الطبقية. كما وساهمت أيضاً في تطوير الجوانب التحرّرية في الثقافة الشعبية، وفق رؤيةٍ لخلق ثقافة جديدة تعكس نظرةً بديلة تقدّمية وشاملة إلى العالَم.

مربّو الكبار بوصفهم مثقّفين عضويّين

كان مفهوم غرامشي عن «المربّي» واسعاً بحيث يضمّ عدّة أنواع من ممارسي هذه الوظيفة حتى أولئك الذين لا يعتبرون أنفسهم منخرطين بها مباشرةً. ويضمّ مفهوم المربّي لدى غرامشي أولئك الناشطين الحزبيّين العاملين في مجال تعليم وتثقيف العمّال، وهو الدور الذي اضطلع فيه غرامشي نفسه منذ مرحلة باكرة من نشاطه السياسي. وكان المفهوم يضمّ أيضاً مسؤولي العمّال أو المشرفين في مجالس المصانع. ويمكن أنْ يضمّ أناساً من شتى الخلفيات التقنية والثقافية الذين كانت تتمّ دعوتهم كمتحدّثين أمام مجموعة جريدة «النظام الجديد» أو المتعاونين في النوادي والمدارس العمّالية. كما ويضمّ مفهوم «مربّي الكبار» هنا أيّ مثقَّف سواء كان له ظهور عامّ علني أو لا، إضافة إلى «المثقفين الشعبيّين» أو «مثقّفي المستضعَفين». وهؤلاء يقومون بدور قادة رأي ومروّجين لمفاهيم وتصوّرات معيَّنة عن العالَم من خلال أقوالهم وأفعالهم. وباختصار يقع جميع هؤلاء ضمن الشريحة العريضة التي سمّاها غرامشي بالمثقّفين العضويّين، الذين إمّا أن يلعبوا دوراً محافظاً أو رجعياً داعماً لنظام الأمور القائم لصالح سيطرة الاستغلال الطبقي والكتلة المهيمنة، أو بالعكس يمارسون تحدّياً تقدّمياً للعلاقات التي تحافظ على تلك السيطرة. وفي مقابل المثقّفين العضويين هناك المثقّفون التقليديون الذين تكون وظيفتهم «العضويّة» قد ولّى زمانها منذ دخول المجتمع في مرحلة مختلفة من التطوّر.

الموقف من «المثقفين التقليديين»

وهكذا من الخطأ نسب دورٍ تقدّمي لكلّ «المثقّفين العضويّين» فالأمر يتعلّق بسؤال: لصالح أيّة طبقة يمارس هذا المثقّف أو ذاك «عضويّته». مربّو الكبار المنخرطون في نشاطٍ ثقافي يتحدّى الهيمنة الرجعية أو المحافِظة القائمة ويسعى إلى تغيير علاقات الهيمنة القائمة هذه، يُعتَبرون، وفقاً لمفهوم غرامشي، مثقَّفين عضويّين للمجموعات المستَضعَفة الطامحة إلى السلطة. وهذا يعني ضمناً أنّه يجب على هذا النوع من المثقّفين العضويّين أن يكونوا ملتزمين سياسياً بأولئك الذين يقدِّمون إليهم تعاليمَهم، وإلا فلن يكون هناك تعليمٌ فعّال. وفي هذا السياق اعتبر غرامشي مثلاً أنّ المثقَّفين الذين يُدَرِّسون في «الجامعات الشعبية» الإيطالية المخصصة لتعليم البروليتاريا، لم يكونوا ملتزمين بهذه الطبقة. بل كان الاهتمام في تلك الجامعات والمدارس موجّهاً «للتأثير» على الطلاب أكثر منه لتعليمهم بفعالية، في عملية شبّهها غرامشي بـ«حشو أكياس المؤونة». بالمقابل رأى غرامشي بأنّ على الطبقة العاملة أنْ تُنتج مثقَّفيها الخاصّين بها أو تستوعب وتستميل مثقّفين تقليديّين، واستيعابُ هؤلاء وهضمهم لصالح الكادحين هو جانب حاسم من «حرب المواقع». والأرجح أنّ يعمل النضال الطبقي للعمّال على الجمع بين كلتا العمليّتين.
ووفق مفهوم غرامشي فإنّ المثقفين التقليديين أيضاً لهم دورهم كمربّين، على الرغم من أنّ وظيفتهم العضوية تبدو أنّها قد انتهت منذ أن باتوا بقايا من نظام هيمنة سابق وبالتالي يظهرون وكأنهم فئة «محايدة»، بينما هم من حيث التأثير يمكن لهم بالفعل أن يخدموا الحفاظ على نظام الأمور القائم ويساهموا في شرعنته. والأسوأ من ذلك أنهم قد يقومون بإغراء بعض المثقفين الذين كان يمكن أن يلعبوا دوراً تقدمياً فيحرفون تطوّرهم عن ذلك المسار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1114
آخر تعديل على الإثنين, 20 آذار/مارس 2023 13:59