انهيار «النشاط الرئيسي» والقتل «الرحيم المجّاني»: عن السؤال الملحّ مجدداً

انهيار «النشاط الرئيسي» والقتل «الرحيم المجّاني»: عن السؤال الملحّ مجدداً

في المواد السابقة تمت الإشارة إلى التقاء مختلف الأسئلة الفكرية التي طرحت عبر تاريخ البشرية على أبواب ولادة العالم الجديد. وهذه الأسئلة في توليفها مجتمعة هي الانعكاس على مستوى الوعي لوحدة القضايا المادية الاجتماعية- الاقتصادية-السياسية التي ترابطت وتعقدت إلى حد ضرورة حلّها المركزي عبر تغيير النظام الاقتصادي السائد. وهذا التوليف لا يعني تواجد الأسئلة جنباً إلى جنب، بل وحدتها ضمن سؤال قضية وحدة الإنسان- المجتمع والانعتاق من الاغتراب، السؤال التاريخي الأساس للكلاسيكيين الجدليين (وضمنا هيغل) الذي حوله بنيت نظرية التغيير الاجتماعي والحرية. وضغط الوقائع يفرض الإجابة الملحّة.

بين هيغل وماركس

في «فلسفة الحق» يقول هيغل بأن الإنسان مدفوع في سعيه للتوحد مع العام-الكلّي يتوسط بذلك وجوده الاجتماعي عبر عملية تأكيده لذاته وتحقيقها، وذلك يحصل عبر كسبه للاعتراف في عينه هو، وأعين الآخرين، وهذا يتم عبر نشاطه، ونشاطه فقط، ليرضي نفسه عبر أنسنته لواقعه من خلال إخضاع هذا الواقع له. ولماركس كانت عملية تحويل هذا المفهوم إلى موقع المادية عبر عملية التحرر الاجتماعي في مجتمع تتحقق فيه حرية الإنسان التي هي عملية وصوله إلى إنسانيته ووحدتها، من خلال وحدته مع المجتمع، أي عدم عدائية المجتمع لسعيه إلى التحقق. إنها عملية تجاوز الانقسام الطبقي الاجتماعي من أجل تجاوز انقسام الإنسان على نفسه عبر التقاء قوته مع القوة الاجتماعية لا عبر التناقض بين الاثنين.

المعادلة في عيون العلماء

حاول العلماء السوفيات أن يحولوا جوهر الفهم الماركسي الفلسفي والاقتصادي-السياسي إلى نظرية ومنهجية للدراسة العملية للوعي والعقل، وأسسوا ما أسموه بـ: «رأس المال في علم النفس»، الذي يقابل «رأس المال» لماركس في دراسة التاريخ والمجتمع. وعليه قالوا بأن مقولة التحقق الذاتي، التي حولها ومن أجلها أُنتج البناء النظري والممارسة الثورية (أي مقولة ماركس المركزية: المطلوب هو تغيير العالم، لا تفسيره فقط)، هذه المقولة تتجسد في البناء النفسي فيما سمّي بالنشاط الرئيسي للذات. هذا النشاط هو الذي يشمل تحته مجمل الأنشطة الفرعية ويخضعها له. وهذا النشاط يتخذ من المادة التاريخية الثقافية والاجتماعية شكل التعبير عن نفسه. ولهذا فهو في كل مرحلة يتطور ويتحول حسب الشروط التاريخية. النشاط الرئيسي هو الهدف «النهائي» الذي تنبني حوله الحياة العقلية والنفسية ومن ثم النشاط العملي (كيف يحاول كل فرد أن يجسد معادلة «الاعتراف في أعين نفسه وأعين الآخرين»). وعلى هذا الأساس، إن كل تحوّل (توسّع أو تضييق) في هوامش تحقيق هذه المعادلة في كل مرحلة تاريخية يعني تحولاً في اقتراب المعادلة من أن تعي نفسها التي هي نقطة الوصول عند هيغل، فتتجلى لنفسها واضحة. يمكن القول إذاً إن جوهر المعركة الفكرية هي على هذه المعادلة وضبط إحداثياتها بشكل دقيق. هذه المعركة التي تجند لها الرأسمالية نخبة عقولها وترسم بذلك ثقافة المرحلة وأدوات الهيمنة الأيديولوجية كممارسة أيديولوجية لا كمقولات، الممارسة التي تحاول ما أمكن أن تطمس وتشوه الواقع وتؤخّر لذلك عملية حل المعادلة المذكورة نفسها، أي إخراج الاحتمال الممكن-الضروري إلى حيّز التقاطه الواعي من قبل السردية الفردية.

المعادلة وصلت حدودها التاريخية

إن المعادلة التي شكّلت جوهر العملية التاريخية لدى هيغل وماركس (مع الفرق في كيفية حضورها في فكر الاثنين)، والتي هي حركة التحقق ووعيها لنفسها، وصلت اليوم إلى لحظة تجليها الصريح كونها أولاً تم استيعابها إلى الحدود القصوى من قبل الفكر الليبرالي الذي في محاولته تشويهها بعد الحرب العالمية الثانية وضعها على مسرح التاريخ كمعادلة صريحة عبر الحلم الفردي. وثانياً، ومع وصول النسخة الليبرالية إلى حدود أزمتها، وضع المعادلة أمام أزمتها. أي أمام تعطل الأرضية الليبرالية لتحققها، فانقلبت (كشفت عن نفسها فقط) الليبرالية بشكل صريح إلى أرضية معادية للذات جسداً وروحاً. وصول معادلة التحقق الذاتي إلى حدودها التاريخية هو أيضاً وصول المجتمع إلى حدوده التاريخية، أي عدم قدرته على إعادة إنتاج نفسه على أرضية المجتمع الطبقي الذي استهلك الإنسان والطبيعة. لا بل إن تعطل المعادلة المعنوية هو الشكل الفردي من أزمة المجتمع الطبقي وكيفية تجلّي تدمير علاقات الإنسان لقوى الإنتاج. وهذا قيل مراراً، ولكن القضية تكمن في تحويل مضمونه إلى برنامج عمل ثوري عالمي على مستوى المرحلة.

موضة «القتل الرحيم والقانوني»

إن عجز النظام وثقافته وسرديته عن تشويه الوقائع مجدداً، ولعدم قدرته على تدمير القوى المنتجة بنفس المستوى كما في السابق (الحروب الكبرى) نتيجة توازن القوى العالمي، نقل مهمة التدمير إلى مستوى علني ووقح. فانكباح قدرته العسكرية العملية، وكذلك أيديولوجيته التي لم تعد قادرة على تأجيل واستيعاب وتحوير الأزمة بسبب وصول الرأسمالية إلى حدودها التاريخية وضيق هوامشها إلى الحد الأقصى، جعل من استجابته متلائمة، لا بل نسخة، عن نزعة الموت التي يتضمنها هذا النظام. فراجت مؤخراً موضة القتل الرحيم في بعض دول الغرب، والتي تجاوزت قضية الموت الرحيم في الحالات الميؤوس منها طبياً، لتطال الحالات «الميؤوس منها» معنوياً واقتصادياً. هكذا هي حال كندا (بعد سويسرا مثلا، ويتم نقاشه في أوروبا، والولايات المتحدة) التي شرعنت الموت الرحيم من قبل من يطلبه، ومجاناً!! عبر مؤسسات طبية متخصصة لهذا الغرض. وبعض الإحصاءات تقول ان «طالبي الخدمة» منهم من لم يعد قادراً على الحياة بسبب فقدانه الرغبة وعدم تحمل واقعه النفسي، بينما آخرون طلبوها بسبب عجزهم أمام استحقاقاتهم المالية، كدفع الرهون أو دفع فواتير المستشفى. إذا إن قوننة للانتحار الذي تقوم به «أعداد» كبيرة في الأطراف والمركز (هذا التقسيم الذي بدأ يتغير أمام تغير قاعدة التبادل اللا متكافئ الذي أسست له). إنه إعلان الإفلاس التاريخي للمشروع الرأسمالي بعد استنفاد الأدوات الاستيعابية والتشويهية لنخبة العقل الليبرالي، إلى جانب كونه توفيراً في الميزانيات الصحية للحكومات.

المشروع البديل بانتظار الإعلان

إذا كان النشاط الرئيس متعطلاً في مستوياته، المستوى الاقتصادي- الاجتماعي-السياسي والمعنوي- النفسي، فإن نشاطاً رئيساً يجب أن يظهر وإلا فإن التفكك سيكون سائداً حتى لو كانت الإجراءات
الموجهة لنظام الأحادية تحمل الاستقرار لفترة ليس أكثر. وهذا النشاط الرئيس في السياسة هو طبيعة النظام الإنتاجي، وليس فقط التحول في عملية التبادل الدولي. فالأزمة هي أزمة نظام إنتاج وعلاقات إنتاج ضمن المجتمع ككل، وليس بين الدول على مستوى العلاقات البينية، أي نمط الحياة الجديد. إن النشاط الرئيس على المستوى المعنوي هو السردية البديلة عن تلك التي هيمنت في العقود الماضية، التي تعبّر عن نمط حياة بديل يلغي الانقسام بين فرد ومجتمع ويسمح بالتحقق الفردي التي فيها يكون الإنسان معترفاً به بعين نفسه وعيون الآخرين في اكتمال حلقة الجمال التاريخية التي هي حلقة التحقق. تلك هي المهمة المركزية التي تنتظر تشكيل قواها وأدواتها من قبل القوى الرئيسية التي على عاتقها تقوم الحركة السياسية في العالم اليوم، والبشرية جاهزة لهكذا سردية لا بل تطلبها في كل لحظة، ومن هنا تحرير الطاقة التاريخية الضخمة الكامنة لصالح العالم الجديد وحماية البشرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1092
آخر تعديل على الثلاثاء, 18 تشرين1/أكتوير 2022 10:42