هل يظهر ساعي البريد حقاً؟
متى بدأ الأمريكيون الذين يديرون أمور أمريكا يعرفون بأنهم يسيرون إلى التراجع الكبير؟
إذا ما أخذنا المعطيات الكثيرة للسينما الأمريكية مقياساً، سنجد أن الأمريكيين يعرفون جيداً بأنهم يسيرون نهو الهاوية منذ ثلاثة عقود على الأقل. أما إذا أخذنا السياسة مقياساً، ربما سنحصل على جواب آخر.
ففي هذه الفترة تكاثرت كالفطر تلك الأفلام الأمريكية التي تفترض نهاية مأساوية للولايات المتحدة الأمريكية. ومنها فيلم «ساعي البريد» الذي أنتج في تسعينات القرن الماضي.
يتحدث هذا الفيلم الخيالي عن حرب أهلية عنيفة تدمر الولايات المتحدة يصبح فيها البيت الأبيض رماداً، وتنهار مظاهر الحضارة والتطور، وتظهر مئات الدويلات- المدن التي تعيش حالة نصف بدائية. بينما تسيطر عصابات أمراء الحرب على الوضع بين هذه الدويلات فارضين الإتاوات في كل مكان.
وفي خضم الانهيار الكبير، يظهر ساعي بريد بالصدفة، والذي يستطيع عبر تنظيم من سعاة البريد، إقامة الصلة الجديدة بين الدويلات- المدن. ويقاوم عصابات الحرب. ويصل الفيلم في النهاية إلى ولادة افتراضية جديدة لأمريكا، حيث تعود أمريكا عظيمة مرة أخرى. فالجملة الأخيرة رأينها كثيراً في السياسة خلال عهد ترامب. فمن يدير السياسة والسينما يفهم نفس الشيء منذ عقود: أمريكا تسير نحو التراجع في الخارج والداخل.
ولكن هل ستصبح أمريكا القادمة حقاً عظيمة؟ فأمريكا العظيمة هي بالنسبة إلى الإمبرياليين: نهب وغزو شعوب العالم. ومن يقرأ مؤلفات المؤرخ الأمريكي هاوارد زين، سيرى أن التاريخ الأمريكي منذ العام 1890 قائم على الغزو والحرب وقتل الملايين. وهذا لن يحدث مرة أخرى. بل ربما ستظهر المئات من الدويلات- المدن الأمريكية كما جاء في فيلم ساعي البريد.
وفي السياق نفسه، جاء في تقرير اللجنة التحضيرية إلى المؤتمر الاستثنائي عام 2003: «منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن جنت الإمبريالية الأمريكية الثمار الاقتصادية لهذه الحرب، احتلت المركز الأول اقتصادياً بين البلدان الرأسمالية، محسوباً على أساس حصتها منفردة في الإنتاج العالمي، بالمقارنة مع المراكز الإمبريالية الأخرى. ولكن منذ بداية السبعينات بدأ يتضح ميل تراجع موقعها الاقتصادي، وثبت نهائياً بعد ظهور الاتحاد الأوروبي الذي احتل المركز الأول، الذي كانت تشغله سابقاً الولايات المتحدة الأمريكية. وبما أن الدور السياسي والعسكري هو انعكاس للنفوذ الاقتصادي فقد نشأ تناقض بين هذين العملاقين، كانت تُحل أشباهه في القرن العشرين عبر الحروب العالمية. واستباقاً للخسارة النهائية لموقعها، وضعت الإمبريالية الأمريكية إستراتيجية للسيطرة السياسية، وحتى العسكرية إذا لزم الأمر».
وإذا ما راقبنا المؤشر البياني للتراجع الأمريكي، سنجد أن التراجع يتعمق أكثر لدرجة كبيرة لا تسمح للألاعيب السينمائية منع حدوث الكارثة بالنسبة للإمبريالية الأمريكية. فالواقع هنا يعطي أقوى الأجوبة عن استحالة أمريكا العظيمة التي يريدون ظهورها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1085