التنظيم الاجتماعي وكبح الاصطدام البربري

التنظيم الاجتماعي وكبح الاصطدام البربري

في ظل تسارع وتصاعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية عالمياً، فإن البحث في قنوات تصريف عدم الرضى العام يحتل موقعاً أساس في مسار التطور العام للأحداث. وتحتل بنية المجتمع وتنظيمها أهمية حاسمة، فالفروقات في التنظيم الاجتماعي التي تتفارق بين الدول ستحدد مسار تصريف “العنف” الاجتماعي، ابتداءً من جهاز الدولة (وضمناً الجيش) وحضوره في حياة المجتمع، وصولاً إلى المنظمات العمالية والأهلية وغيرها. فقوة التنظيم وضعفه هي محددات لتطور عملية الاصطدام الحاصلة اليوم، والتي ستتصاعد مستقبلاً، والتي ستكون معياراً لتطور المجتمع المعني نفسه.

عودة لأعلى منصة تاريخية

إنطلاقاً من أن الليبرالية خلال العقود الماضية، على المستوى الثقافي والسياسي والإجتماعي الموضوعي دفعت وعملت على تعظيم التفكك الاجتماعي وضرب كل بنى التنظيم الاجتماعي، فإن البحث في التنظيم الحالي للمجتمعات ومدى تطوره يجب أن يبحث بالمدى الذي أثرت به الليبرالية في بنى المجتمعات. يعود بنا ذلك إلى أعلى منصة تنظيمية وصلها المجتمع المعني خلال مرحلة صعود الحركة الشعبية، التي كانت هي الرافعة الموضوعية لتطور أطر التنظيم الاجتماعي والسياسي الأكثر تطوراً في التاريخ الحديث، والتي أخذت أشكال النقابات والأحزاب والمنظمات الأهلية وغيرها، وصولاً إلى التطور في جهاز الدولة نفسه ومستوياته، وهناك العائلة أيضاً. ولا نقول: إن قوة هذا التنظيم الاجتماعي عامل إيجابي بالمطلق في مختلف الدول، بل هو يحمل تناقضاً في دوره، انطلاقاً من الاتجاه السياسي الفاعل (أو الأكثر هيمنة) في هذا المجتمع أو ذاك. أي في مدى قدرته على تمثيل الاتجاه العام للحركة. وبشكل ملخص، إن المجتمعات التي تطور فيها الصراع السياسي ما قبل هيمنة عقود الليبرالية تحمل عناصر أمان تنظيمي أعلى من غيرها، وهي ربما ستكون أكثر جاهزية لتلقي الاصطدام الحاصل ضمن المجتمع نفسه. ولكن مجدداً، يتداخل عنصر الأمان هذا مع الملامح السياسية وليس فقط التنظيمية للمجتمع المعني، أي في الطابع التاريخي لتشكل التنظيم الاجتماعي المعني.

عناصر الحياة تدافع عن نفسها

على الرغم من الفروقات التي قد تطبع تطور الحركة، إلا أن اتجاهها العام يمتاز بالتقدمية، انطلاقاً من الظرف التاريخي الحالي. إن أهمية التنظيم الاجتماعي نابعة من كونه يعبّر عن أجسام تحمل فيها عناصر حياة هي عرضة للتدمير بمعزل عن جذريتها السياسية، أي بمعزل عن وعيها الأيديولوجي التي تحمله. فطابع الهجوم الحاصل اليوم، ضمن صيغة البربرية- الفناء، هي التي تعطي الطابع التقدمي لأدوار التنظيم الاجتماعي. أي في كونها تحمل عناصر حياة تاريخية، هي نفسها نتيجة اتجاه تقدمي في التاريخ الماضي لهذه المجتمعات. والظروف التي ينوجد فيها المجتمع البشري تفرض على عناصر الحياة تلك أن تدافع عن نفسها، ونتيجة التشابك العالي للقضايا وانطراحها كلها على طاولة البحث، يجعل من الصعوبة على مسار الحركة أن يتفلّت من الشروط العامة للتغيير، كما كان يمكن أن يحصل في ظروف تاريخية سابقة. فالحدة والعمق الخاصين بالأزمة يفرضان مسلكاً إجبارياً على الحركة (أليست بعض نخب أوروبا والغرب بشكل عام اليوم تعي ضرورة التخلي عن خطوات هي تدميرية على الغرب نفسه؟!).

نماذج مختلفة

إن تطور الحركة السياسية هو الذي يمثل المقياس لتطور التنظيم الاجتماعي، ولهذا مثلا فإن التطور الأعلى نجده لدى روسيا والصين، وبقية الدول التي تطورت فيها التجربة الإشتراكية إلى مديات أبعد. بينما تلك الأقل تطوراً هي التي لعب فيها الاتجاه الاقتصادوي دوراً فاعلا عبر تطور النقابات تحديداً، التي كانت سقف تطور الحركة. بينما الدول التي كُبحت فيها الحركة السياسية (الصراع نفسه) فلم تتطور فيها عناصر التنظيم الاجتماعي الحديث بشكل كافٍ. وهذا العنصر نفسه هو المحدد لمدى فعالية الليبرالية لاحقاً. فالدول الأعلى تنظيماً كان تأثير التفكك الليبرالي عليها أقل من تلك الدول التي فيها التنظيم أضعف. وللمناسبة، فالدول الأعلى تنظيما هي التي تتخذ (وستتخذ) موقفاُ أقرب وأنسب وفقاً لمصالح التطور التاريخي للبشرية، وان اختلف المستوى والشكل الذي يظهر به هذا الموقف. إذاً، إن تصنيف طابع الحركة السياسية في مرحلة الصعود الثوري في القرن الماضي هو معيار لتحديد كيف يمكن لحركة الحياة أن تدافع عن نفسها اليوم. فالمجتمعات التي تطورت فيها الحركة الاقتصادوية النقابية سيكون فيها حضور الجسم النقابي هو الملح العام، أما في الدول التي تطورت بها التجربة السياسية إلى المستوى السياسي الجذري فإن الحركة ستتخذ طابعا سياسياً أوضح (روسيا والصين، دور الجيش وجهاز الدولة والمنظمات العمالية- الأكاديمية بشكل عام). وفي بعض المجتمعات ستظهر حركة الحياة بشكل أكثر “أهلية” عبر المؤسسات التقليدية العائلية والدينية (نموذج الحركة الأهلية- الدينية الصربية في الأيام الماضية مثالاً، للدفاع عن الثقافة التقليدية للمجتمع في وجه “حركة التحول الجنسية” المعمّمة عالمياً).

اتجاه عام متداخل العناصر

لن يتخذ شكل الاصطدام مساراً يمكن تحديده عبر نموذج واحد مسبق بسب تداخل العناصر التي تحدد ملامحه، ولكن كخلاصة عامة، فإن عنصر التنظيم الاجتماعي على مختلف أشكاله سيكون عنصراً أساس في تطور الحركة، ومدى تماسك المجتمع في وجه نتائج الاصطدام. المجتمعات الأقل تنظيماً ستتجه للفوضى أكثر بسبب انخفاض تأطير التوتر الاجتماعي. ويمكن إيجاز ذلك ضمن معادلة الزمان- المكان التي يتخذها التنظيم الاجتماعي. فكلما اتسع التنظيم بالمعنى المكاني- الجغرافي، وكان متضمناًّ لمدى زمني أبعد (تطوره السابق وبعد خطه المستقبلي) أي العقل التاريخي الذي يحكمه، كلما كان هذا المجتمع أكثر قدرة على تلقي الاصطدام الحاصل. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولهذا فربما ستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي المجتمع الأكثر هشاشة بين الدول الحاضرة على الساحة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1084