في التراث والديالكتيك
يعتبر التراث بشقيه المادي واللامادي جزءاً مهماً من تاريخ أي مجتمعٍ وأي شعب وذاكرته، ينمو ويتطور بتطور المجتمعات والشعوب، وفق قوانين التطور الديالكتيكية وليس وفق الرغبات، بالإضافة إلى أنه له قانونيته الخاصة.
تأتي أهمية التراث من كونه مغموساً بدم الإنسان وعرقه ومعجوناً بتراب الأرض، خلال حياته وعمله، وهو خلاصة تجاربه، وغناه وتنوعه بحسب ظروف الحياة والعمل والبيئة والزمان.
التنوع والوحدة
رغم التنوع حسب المكان والزمان وأن لكل مكان وزمان خصوصيته إلاّ أن التراث يمتاز بأنه إنتاج جماعي، ويمارس بشكل جماعي، وهناك روابط جامعة ومشتركة وتشابه ليس في سورية ولدى الشعب السوري وحسب، وإنما لدى شعوب الشرق، كقصة جحا، وهي الملا نصر الدين في التراث الفارسي والكردي وشعوب آسيا الوسطى، وهو البهلول في مناطق أخرى، وكذلك الكثير من قصص ألف ليلة وليلة وشهرزاد والسندباد وكليلة ودمنة لابن المقفع، وقصص الحب وغيرها، وإن بروايات وأسماء مختلفة، وصياغات متنوعة، وإن غلب على بعضها طابع الرمزية وعلى ألسنة الحيوانات مثلاً، بسبب قمع القوى المهيمنة آنذاك، ولكن جوهرها متقارب جداً، وكذلك ألوان الغناء والموسيقى واللباس والعادات والتقاليد، لأن التراث عملية تراكمية عبر عشرات ومئات السنين، وبسبب العلاقات التاريخية بين هذه الشعوب.
الموقف من التراث
هناك من يقف موقفاً سلبياً من التراث، ويرفضه جملةً وتفصيلاً، وأنه جزء من ماضٍ تجاوزه الزمن، دون رؤية علمية ومنهجٍ علمي، وخاصة الليبراليين والعلمانيين الجدد، المتأثرين بتغريب الغرب وبهرجته الشكلية، التي تعتمد على الممارسة الفردية والنمط الاستهلاكي في الحياة.
وهناك من يتمسك به كله بعجره وبجره، برؤية أصولية جامدة، وأيضاً دون رؤية علمية وتمحيص يستبعد الغث من السمين.
وهناك من يعمل على دراسته وفق رؤية ومنهج علميين لاكتشاف الجوانب الإيجابية وعناصر استمراريته، والاستفادة منها بتعزيزها وتطويرها، لذلك المطلوب ليس توثيقه والمحافظة عليه فقط، لأنه من القضايا الجامعة في المجتمعات، بل دراسته ونشره.
نهب التراث وتخريبه
لقد تعرض قسم كبير من التراث المادي للنهب والتخريب، من قبل قوى النهب والفساد ومن القوى الظلامية المرتبطة بالخارج، ومافيات دولية، بشكلٍ منظم أو بشكل عشوائي، كما حدث في سورية والعراق وحتى أفغانستان، وخصوصاً الآثار التي عمرها آلاف السنين، خلال العقدين الماضيين وسنوات الأزمة المستمرة، التي تعتبر جزءاً مهماً من تاريخ وذاكرة الشعوب، والتي أيضاً تحولت إلى تجارة مربحة جداً، وليس ذلك فقط، بل الهدف سرقة تاريخ المجتمعات وتزويره، كما يفعل الصهاينة في فلسطين مثلاً، والتراث أحد الأمور الجامعة فيها، مما يُسهل تفتيتها.
أما التراث اللامادي بمختلف أشكاله من غناء وموسيقى وأمثال وقصص وحكايات وأساطير تروي حياته وتعبر عن مستوى وعيه، وتفسيره لوجوده، برؤية فلسفية بسيطة تعتمد على المحسوس أكثر من المجرد، سواء كانت لحظية في حاضره أو تحمل بعداً زمنياً للمستقبل، كما يصور نمط حياته وتعامله مع الآخرين والطبيعة، بلغة بسيطة خالية من التعقيد، سواء كانت عامية أو فصحى وقد تعرض قسم كبير منه للضياع بسبب الإهمال وعدم التوثيق أو قِلة التوثيق وسوئه، وبسبب بقاء قسم كبير منه متداول شفهياً، وبالتالي لَحِقه التحريف والتشويه.
المادية والديالكتيك في اللامادي
إن بعض أشكال التراث اللامادي على الرغم من بساطة صياغتها وتعبيراتها ولغتها، التي تعتمد على الكناية والتشبيه والاستعارة لغوياً، كالأمثال الشعبية، فهي تحمل دلالاتٍ عميقة، فكرية وسياسية ورؤية مادية منسجمة مع قوانين الديالكتيك للحركة والتاريخ وظروف والزمان والمكان، ومستقاة من علاقة الإنسان بالإنسان وبالبيئة والطبيعة، ومن خلال التجربة الحسية المتراكمة والمباشرة، وهي جزء من البنية الفوقية المتناسبة مع البنية التحتية، وكثير منها انزاح بحكم الظروف المتغيرة، وكثير بقي منها لأنها تحمل عناصر استمراريتها، وكثيرون يتداولونها ويستخدمونها دون التدقيق بهذه الدلالات وعمقها، ووفق هذا الفهم للتراث وأهميته سنتناول جزءاً من التراث اللامادي، وهي بعض الأمثال الشعبية التي ما زالت مستخدمة شعبياً، لبيان هذه الدلالات والاستفادة منها إضافة إلى توثيقها.
يقول المثل: كثرة الضغط ّ تولد الانفجار، وهو تعبير عن أن التناقضات والتراكمات الكمية ستفرض التغيير.
وتقول أمثلة أخرى: الحيل باللقمة، وأكل الرجال على قد أفعالها، وكل أكل الجمال وقم بأفعال الرجال، وهي تعبر عن أهمية الغذاء المناسب لإعادة إنتاج قوة العمل.
وتقول أمثلة أيضاً: وافق شِنٌّ طَبَقَه، وطنجرة ولقت غطاها، والطيور على أشكالها تقع، والقبق لقى القدرية، وهي تعبر عن التطابق في الشكل والممارسة.
يقول المثل: الضد يُظهرُ حُسنه الضّدُّ، وهو يعبر عن الصراع والتناقض كمحرك أساس للانتقال إلى مرحلة أعلى.
وقول المثل الشعبي: ما يعرفك إلاّ الماردك يا لِبَنْ (أي من صنعه) وهو يعبر عن أهمية معرفة جوهر الأمور، ويتقارب مع المثل: أعطي الخبز لخبازه، وهما يعبران عن أهمية المعرفة، وتطابقها مع الممارسة.
اطرق الحديدة وهي حامية، أي اختيار اللحظة المناسبة زمانياً ومكانياً في المادة والمجتمع، لتحقيق التغيير.
يقول المثل: تا يجي الصبي، نصلي على النبي، وهو يعبر عن عدم استباق الأمور، بينما المثل الآخر: كل شيء بوقته حلو، ويعبر عن التقاط اللحظة المناسبة، وكذلك الأمثلة: اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب، والمثل: صواب الشيخ فات، والمثل: ما ينفع العليق عند الغارة، ويقول المثل الشعبي الآخر: يطعمك الحج والناس راجعة، وهي يعبر عن التأخر في اتخاذ الموقف.
أما المثل: طبخة حصو، والمثل: خوجة علي، وعلي خوجة، فهما يبينان عدم الفائدة من الأعمال البدهية والتجارب التي نتائجها معروفة سلفاً، ومع ذلك البعض يكررها.
يقول المثل: نقلهم ثور.. يقولون احلبوه، وفي رواية أخرى، تيس، وهو يعبر عن الجمود الفكري وعدم رؤية الواقع بشكلٍ صحيح.
ويقول المثل: اللي يدري، يدري، والما يدري يقول: كف عدس، وهو يعبر على عدم المعرفة والحكم على الأمور بظواهرها، وهذا يقود إلى العدمية في تحديد المواقف.
وكذلك المثلان: يدق المي وهي مي، ودبك خَرْمة، أي بمكانها، يعبران عن الجمود، والمثل الفصيح: وفسر الماء بعد الجهدِ بالماء، أي بعدمية ودون نتيجة.
أما المثل الذي يقول: لا يصلح العطار ما أفسده الدهر، وهو يعبر عن ضرورة التغيير الحقيقي المناسب وليس إصلاحات فات وقتها ولم تعد مناسبة.
يقول المثل: دوام الحال من المُحال، وهو يؤكد أن التغيير مستمر وحتمي ولا يمكن منعه وهذا ديالكتيك شعبي.
يقول المثل: قومٌ تعاونوا ما خسروا، وهو يؤكد على دور التعاون والعمل الجماعي في تحقيق التقدم والنجاح، أما المثل الآخر فيقول: من عاشر القوم أربعين يوم صار مِنهم، وهو يؤكد على تأثير الجماعة في الفرد، وفق علاقة جدلية تقوم على التأثير والتأثُر، والمثلان ينسجمان مع قول ماركس: جوهر الإنسان علاقاته الاجتماعية.
وأخيراً، لا شك أننا نستطيع إسقاط هذه الأمثلة وغيرها على أحداث ووقائع وأحداث وممارسات ورؤى ومواقف سياسية واجتماعية مشابهة ومعاصرة وتتناسب معها، لأن عناصر استمراريتها ما زالت موجودة، ويمكن استخدام هذه الأمثلة في ذلك، خطاباً وممارسة حسب مستوى الوعي مما يسهل في تفسير الوقائع تفسيراً صحيحاً، وإيصال الأفكار والمواقف، لأوسع الشرائح الاجتماعية، لتحقيق ممارسات جامعة والتغيير الحقيقي، لأن الفكرة تتحول إلى قوّة مادية إذا كانت صحيحة ومناسبة تبناها الناس.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1071