مأسسة «الفاشية» والقطاع «الروحي الأسود» والمجابهة بـ«نمط الحياة الجديد»

مأسسة «الفاشية» والقطاع «الروحي الأسود» والمجابهة بـ«نمط الحياة الجديد»

قطاع التشويه في شكله الحديث

إن تطور هذا القطاع تاريخياً كان ضرورة استجابة للتطور الحاصل في الحياة الروحية- النفسية حول العالم. أي بتوسع هوامش العمل الذهني والاستهلاك «الذاتي» وما جلبه من تطور في الحاجات، وعن التناقض بين هذا التطور للقوى المنتجة البشرية مع واقع الاغتراب الرأسمالي. فكان لا بد من استيعاب عدم الرضا الناتج في هذا المستوى من قبل القوى المسيطرة. وكما كان الفكر المسيطر يحاول تاريخياً استيعاب حالة عدم الرضا فكريا وسياسياً عبر محاربة الظاهرة من خلال تفريغها من جوهرها الثوري، فهذا ما يحصل نفسه اليوم في الفضاء الروحي- النفسي. فعدم قدرة الواقع الليبرالي (الاستهلاكي- الفرداني) على إرضاء معاني الوجود الإنساني يفرض بروز مشاعر العدمية والانسحاب الاجتماعي ورفض الواقع، ورفض الذات أيضاً. فما كان إلا أن استجاب السلاح الأيديولوجي للفكر العالمي المسيطر لاستيعاب ذلك من خلال تعويم المدارس العدمية والفوضوية والفردانية التأملية وكل أشكال الفكر السحري أو ما يمكن تسميته بالقطاع «الروحي الأسود» التي ظهرت في التاريخ. هذا الهجوم الروحي من أجل حرف مشاعر عدم الرضا وإلباسها لبوساً له معنى، والذي يعطي حامله شعوراً بالقيمة ويمده بالأدوات لتفسير معاناته الروحية- النفسية.

مأسسة الفاشية النفسية

إن أقصى أشكال هذا التوظيف عبر مأسسة السعي إلى تثبيت «تمايز» الذات الإنسانية في شكلها المعادي للواقع والآخرين هو الفاشية. الفاشية هي النتيجة المنطقية للتعويض الرجعي- الفرداني للقيمة الذاتية التي تطورت خلال العقود الماضية بشكل متضخم. فإذا كانت تيارات الفاشية تاريخياً لها مضمونها النفسي من التفوق النوعي للقومية والعرق... فإنها اليوم تكتسي أقصى أشكالها في تفوق الفرد الواحد دون غيره. أي إننا اليوم وصلنا إلى النتيجة المنطقية للطرح الرأسمالي حول الدفع بالفردية إلى أقصى ما يمكن. الدفع بها نحو التعارض مع المجتمع بشكل صريح. والتعارض مع الآخرين. ولكن ضمنياً، إن هذه الذات تصبح معادية لنفسها، كونها تغلق أمامها أبواب الواقع ومساحة الفعل، والتي هي المسار الوحيد للتحقق، مما يعطي ذلك دفعاً جديداً للتطرف. فتدخل الشخصية ونزوعها في حالة من التغذية الذاتية للتطرف كلما زاد عدم الرضا.
هذا التفكيك للمجتمع إلى أقصى نواته، أي إلى الخلية الفردية، هو النتيجة المنطقية لحركة المجتمع الرأسمالي في حالة أزمته.

الحركة المقابلة

كان واضحاً أن حركة التفكيك مبكراً لا يمكن مواجهتها إلا بحركة نقيضة هي في الجوهر حركة نقيضة للرأسمالية بالضرورة. ولكن حتى الآن يمكن القول إن المواجهة عالمياً على هذا المستوى ما زالت بعيدة عما هو مطلوب. فمواجهة جيش الأيديولوجيا ومدارس «التنجيم والسحر والتأمل» والمنشورات والمواد اليومية المنتشرة بفعل وسائل الدعاية اليومية و«اللحظية» لا يمكن أن تكون إلا عالمية الطابع. وفي جوهر هذه الحركة هو القبض على محرك حالة عدم الرضا نفسها. أي الفراغ الحاصل في معنى الوجود من جهة، وقيمة الذات الإنسانية من جهة مقابلة. هذا الفراغ يجب ملؤه بمشروع حياة شامل بالترافق مع توضيحه وتفصيله وتأسيس أرضية لمأسسته اليومية كنمط حياة وما يمكن أن يكونه. دون ذلك لن يكتب للطاقة الكبرى الكامنة بدعم التحول العالمي المطلوب والحفاظ على الحضارة البشرية. هذا كان واضحاً لنا منذ سنوات طويلة. ولكنه اليوم صار مهمة مطروحة على جدول الأعمال القريب. فالصمود ممكن بالفعل، ولكن طاقة الصمود يجب مدها دائماً بالأمل والهدف. فعلى تعبير إنجلس لا يمكن اختزال التصور المادي عن التاريخ إلى الاقتصاد وحده، بل إلى تفاعل العوامل الاجتماعية والتاريخية في كل متكامل. ولهذا فإن مأسسة الفاشية النفسية في قطاع روحي أسود يجب مواجهته بمأسسة مقابلة.

مؤشرات سريعة

قيل سابقاً إن المعركة في السياق الأوكراني تتطلب استعادة للرموز السابقة من مرحلة الصعود، وهذه الاستعادة للتاريخ الاشتراكي تكثفت في كلمة الرئيس الروسي في يوم عيد النصر. فالسردية التاريخية هي الأرضية التي ترسم حدود المواجهة على مستوى الوعي في المعركة الحالية. ولكن هذه الاستعادة وإن كانت خاصية روسية نابعة من وزن التاريخ الوطني في وعي الملايين، لن تكون كافية في فضاء المواجهة العالمية في الإجابة عن حالة عدم الرضا الروحي. فالتلوث الليبرالي والفردانية المتضخمة قد تعمل دفاعياً تجاه رحب الرموز المستعادة. ومن هنا، وكما للحرب العسكرية إستراتيجيتها وتكتيكها وأدواتها، فإن المواجهة على المستوى الأيديولوجي هي على ذات مستوى الدقة لناحية الأدوات والإستراتيجية والتكتيك. فالعدو متفوّق في هذا الميدان عبر عقود من هيمنته في هذا المجال، وهو متفوق في هيمنته على قطاع الإعلام والدعاية، كما كان في قطاع الاقتصاد العالمي. ولكن ما زال قادراً على الفعل بقوة في المجال الروحي لسبب إضافي أساسي هو نمط الحياة الاستهلاكي الذي يحكم حياة المجتمعات في غالبيتها المطلقة. هذه القاعدة المادية هي المولدة للنزوع المعادي تجاه الحياة الروحية «السوداء» للفكر المسيطرة عالمياً، كما أن الاقتصاد البضاعي هو المولّد للرأسمالية. وهنا تكمن نقطة الانطلاق في استكمال المواجهة. ولكن يبدو أنّ أداء الدول الصاعدة أي روسيا والصين بشكل أساس ما زالت تتحرك بوتيرة «حذرة» في هذا المجال. ويبقى السؤال إلى متى؟ فكما كانت العملية العسكرية في أوكرانيا هي «ضربة استباقية»، ألا يجب أن تكون الممارسة في المجال الروحي فيها ما فيها من الضربات الاستباقية كونها تطال الداخل مباشرة؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1070
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيار 2022 13:55