كل شيء صار على الطاولة وتحديداً: تعريف الإنسان

كل شيء صار على الطاولة وتحديداً: تعريف الإنسان

إن التناقض السياسي، بما هو صراع بين نظامين اجتماعيين وبالتالي بين بنيتين للمجتمع مع كل ما يعنيه ذلك من ميادين الحياة المادية والمعنوية، يشكّل إطاراً يصهر فيه باقي التناقضات، وفي المرحلة الحالية حيث ينطرح على جدول الأعمال تغيير قاعدة المجتمع الطبقي ضمن هذا الصراع، فإن ذلك يعني أنه سيجرّ معه باقي السلسلة. وهذا بالتحديد يعني أن المرحلة الحالية تغلي بكل ما يتضمنه الواقع من تناقضات تحتاج إلى حل، ومن هنا ارتفاع منسوب التوتّر الذي نلمسه في كافة الحقول (الفلسفة والعلوم والفن والعاطفة والأدب...)، وكأن الينابيع المتعددة تلاقت لتشكّل الجدول على حد تعبير لينين، بل إنه النهر الجارف. ولهذا، كل هذه الحقول ستطرح أمامها الإطار الذي سيحكم ممارستها في المرحلة القادمة، ضمنياً أو بشكل صريح. وفي هذه المادة سنحاول أن نقترب من الحقل النفسي الخاص بتعريف الإنسان ما بين «الإنسان الدودة» أو «الإنسان الإبداع»!

«الإنسان الدودة»

في جوهر صراعها مع مقولات الاشتراكية حول الإنسان تُقدّم لنا الأيديوجيا المهيمنة حجّة لطالما سمعناها وهي أن الاشتراكية غير ممكنة لسبب بسيط هو الطبيعة الإنسانية نفسها التي تحكمها الغرائز «الطماعة والنهمة للمزيد». هذه الحجة نفسها تُظهر مدى التناقض القاتل في قلب الثقافة المهيمنة التي تفيض علينا إنسانية منافقة وتعايشاً شكلياً وعطفاً وتضامناً من «إنسان» هو في حد ذاته «عدائي وطماع ونهم وشره ...» فالأيديولوجيا الليبرالية المهيمنة إذاً ترفض «الحرب والعدوانية» (ما نراه اليوم من مقولات تضليلية تجاه الحدث الأوكراني مثلاً) ولكنها تقبل في ذات الوقت القاعدة المؤسسة لكون الإنسان ميالاً للحرب بطبعه لا بسبب الحرب كظاهرة إجتماعية تاريخية. فلماذا هم مستغربون؟ هذا التعريف اللاتاريخي للإنسان يمكن إيجاده في أغلب التيارات المؤسسة لقاعدة الهيمنة والمعادية للتغيير في العلوم كافة وهذا صار بدهياً. فالرأسمالية ترى الإنسان «دودة» استهلاكية غير قادرة على الارتقاء عن الفهم «الفيزيولوجي» للسعادة على حد تعبير ألبرتو مورافيا. وفي ذات الوقت مارست هذا الفهم ورسخته في نمط الحياة الذي تم تعميقه خلال العقود الماضية بما يسمى مجتمع الترفيه. وهذا التعريف ينافي ضمنياً كل القيء الليبرالي حول «المشاعر والإحساس والإبداع والترفع عن العدوانية...» التي ينادي بها هذا العقل الليبرالي الذي ينحدر بالإنسان إلى مستوى المنفعل السلبي، والأخطر أنه يقدمه كإنسان غير حر، بل محكوم بقيود طبيعته. فكيف يرتقي الإنسان إذاً؟ بالنسبة لهذا العقل لا يرتقي الإنسان إلا إذا عمل ضد نفسه من خلال آليات ضبط ذاتية تعادي جوهره. إذا، الجانب الإنساني في الإنسان هو العارض، أما القاعدة فهي «حيوانيته» التي يجب لجمها.
اليوم هذا التعريف هو على محك التصفية التاريخية لكون الإنتقال التاريخي، ومن أجل أن يحصل، يفرض حلًا للحاجات التي ولّدها نمط الحياة المتناقض والمعاناة التي تنتظر حلّها عملياً بدءاً من تضخم الجماليات والإحساس الفني، وصولاً إلى النشاط العلمي، مروراً بكل المروحة الروحية-المعنوية لكل ما هو إنساني التي دفع بها الواقع الليبرالي خلال العقود الماضية إلى الأمام بشكل مضخم (لننظر أن كل فرد اليوم صار لديه حس جمالي وممارسة جمالية إبداعية من التصوير إلى الشعر إلى أشكال أخرى من الممارسات العاطفية التي هي طابع عام مُحَقَّق للإنسان اليوم). فإذا كانت الرأسمالية كما يقول ماركس طورت قوى الإنتاج في جانبها التكنولوجيا في بداياتها، فإنها في العقود الماضية وبسبب من توسعها في شكلها الجديد عالمياً دفعت بشكل كبير جوانب من تطور الإنسان الذي هو العنصر البشري من قوى الإنتاج. مع فارق بسيط هو أن تناقض علاقات الإنتاج مع قوى الإنتاج في الجانب التكنولوجي تعاش «خارجياً»، بينما هي لدى الإنسان تناقض «داخلي»، يقسم الإنسان ويشظّيه وهذا أيضاً صار بدهياً. ومن هنا الجانب المتناقض الذي نراه اليوم في الإنسان، فهو مهشم روحياً ولكنه في ذات الوقت يحمل إمكانات روحية-نفسية ضخمة هي التي تساهم، وهنا سخرية المسألة وتناقضها، في تدميره بسبب عدم القدرة على تحققها.

بعض الأمثلة التاريخية

حتى لا نقفز عن الواقع نفسه يمكن أن نجد أدلة تاريخية فاقعة على بطلان التعريف «اللا إنساني» أعلاه. وهذه الأدلة توجد في مختلف الحقول، بدءاً من الفن الأدب وصولاً إلى العلم، ومن ثم هي أوضح ما يكون في حقل السياسة، ومن ثم تجد ذروتها في فعل البطولة والإستشهاد في حقل الحرب. فكم من فنان أو أديب كرّس نفسه لإنتاجه الفني متخلياً عن المغريات الفنية، ومات بسبب هذا التكريس، وتولستوي واحد منهم في مجال الرواية في تخليه عن الثروة وحياة الرفاه، ومعاناة الرسامين في سبيل فنّهم دليل آخر على مركزية المسألة الإبداعية في حياة الإنسان، كانتحار فنسنت فان غوخ بمعزل عما يتم ربط انتحاره، وهو الذي قال في لوحته الشهيرة «آكلي البطاطا»: لم يكن هدفي إظهار التفاصيل التقنية للشخوص والأشياء، بينما كان هدفي إظهار عناصر الحياة نفسها. تلك اللوحة التي اعتبرها هو من أهم أعماله، والتي لقيت تهميشاً واستبعاداً خلال حياته، ولم تنشهر إلا بعد موته. وما حياة المنفى التي عاشها المسرحي بريخت والشهادة التي لاقاها فيكتور غارا، وهؤلاء يكثفون فيهم السياسة والفن والشهادة. وما العلماء الذي كرسوا حياتهم من أجل المنتج العلمي إلا دليل ساطع على مركزية العملية الإبداعية في الحياة. والسياسة كعملية نضال هي حقل آخر لإظهار فعل إنساني أرقى ما يكون من خلال تكريس الحياة في هذا الحقل، وأيضاً تاريخ الحروب مليء في فعل البطولة، وإرثنا مليء بذلك.
كيف يمكن أن يظهر أفراد في هذا الصفاء الإنساني في التاريخ في حين أن الإنسان في طبيعته معاد للمساواة والترفع عن الملذات «المادية»، بينما هو مستعد للتخلي عن وجوده المادي بالتحديد لصالح ذلك الهدف المعنوي؟

ضرورة الإنسان وقيمته

يتّسع البحث كثيراً، ولكن يمكن القول مجدداً إنه وبسبب أن العقود الماضية دفعت للأمام بما لا يقاس بالحاجات المعنوية والروحية للأفراد، فإن مسألة تعريف الإنسان ككائن إبداعي أساس في جدول الأعمال اليوم. فالإنسان اليوم، ومع وصول التطور التاريخي للبنية الرأسمالية نفسها إلى نهايتها المنطقية، يصل هو أيضاً إلى نهايته المنطقية في تحقيقه واقعياً التعريفات النظرية التي ملأت الأدبيات. إنه يحقق نفسه كائناً إبداعياً في علاقته بالواقع. ولهذا تتقدم إلى الواجهة اليوم كل المقولات التي ظلت في الأعمال النظرية ثانوية كونها لم تكن مطروحة على جدول أعمال التاريخ في ذات الوزن الحالي ومن أهمها مقولة مكسيم غوركي: بعد أن نجيب عن سؤال كيف نعيش، يجب أن نجيب عن سؤال لماذا نعيش؟ واليوم يجتمع السؤالان في ذات اللحظة التاريخية. وهذا كان قد أجاب عنه ماركس في حاجة الإنسان أن يكون ضرورياً لغيره ولنفسه حتى يتحقق. هذا هو المسار القادم الذي يجب أن ترتسم تفاصيله العملية.
إذاً، إن عملية الحفاظ على العالم اليوم تفرض حلّا ليس للمسائل السياسية والاقتصادية فقط، بل كل الإشكالات الفلسفية والنظرية التي طرحها التاريخ، وهنا نحن أمام قضية تعريف الإنسان. وهذا يأخذنا إلى فيغوتسكي الذي قال بأن علم الإنسان (علم النفس) لا يمكن أن يظهر إلا مع ظهور المجتمع الجديد. ولهذا فإن طاقة المرحلة الحالية هائلة وتتفجر من كل مسام الواقع.
ويقدم بريخت شيئاً من هذا في قصيدته «مُتَعْ» مثالاً عن إنسان أرقى من ديدان الرأسمالية حين يصف المُتَع: «أول نظرة من النافذة في الصباح، الكتاب القديم وقد عثرت عليه ثانية، الوجوه المتحمسة، الجليد، تغير الفصول، الصحيفة، الكلب، الديالكتيك، الاستحمام، السباحة، الموسيقى القديمة... تقبل الأشياء، الموسيقى الجديدة، الكتابة، الزراعة، السفر، الغناء، أن أكون ودوداً». نحن اليوم أمام تكثيف لكل التاريخ ورموزه ومعانيه وأهدافه وحتى مجمل المشاعر الإنسانية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1064