العقلية «الرثة» تتوسع.. على المتقدمين الحذر!

العقلية «الرثة» تتوسع.. على المتقدمين الحذر!

كانت النبوءات الماركسية المبكّرة لانحدار البشرية إلى البربرية والهمجية عبّرت عن نفسها من خلال الحرب كحالة تاريخية محددة وخاصة في مسار الرأسمالية، وإلى حد ما خلال الأزمات المتلاحقة. ولكن تحوّلها كمقولات نظرية إلى حالة ملموسة عامة حاضرة في وجود المجتمع الرأسمالي ككل سار جنباً إلى جنباً مع كل تطور جديد للرأسمالية، وتحديداً مرحلة عقود التخمة الليبرالية. وهذا ما عبّرت عنه الكتابات المبكرة للأدباء والمفكرين والشعراء الثوريين تحديداً، الذين تلمسوا مبكراً ملامح المرحلة. ويبدو أن التصدي لهذه الظاهرة يحتاج إلى تجذير جديد ونوعي للخطّ الصاعد.


ملامح مبكّرة وراهنة

شهد المجتمع الغربي مظاهر انحلال مبّكرة نتيجة إغراق المجتمع بإفراط الاستهلاك والسعادة الشكلية الكميّة ضمن الأدوار الاجتماعية ضمن الرأسمالية، ومعاني الحياة التي يحددها هذا المجتمع حول أهداف حياة الفرد الناجحة. أي ضمن واقع الانفصال بين الإنسان والمجتمع والآخرين وعن نفسه. وهذا ما انعكس في الاتجاهات الفكرية كالمدرسة النقدية أو مدرسة فرانكفورت. تصاعدت مظاهر البؤس الروحي والمعنوي في الغرب، ولكن قدر الغرب على استيعابها مؤقتاً نتيجة طبيعة بنيته الاستيعابية التي لا تحتاج فيها إلى تماسك اجتماعي عالٍ ولا إلى وحدة اجتماعية عميقة، بل وحدة شكلية ضمن إطار سردية الميديا الرسمية. وما الخواء الروحي والتسطيح الذي يطبع اليوم هذا المجتمع إلا دليل على ذلك. هناك ما يمكن تسميته اليوم بالهجرة الروحية من الغرب إلى الشرق سعياً وراء التجربة الروحية حسب اعتقاد من يقوم بها. فالتقسيم المعتاد هو أنّ الغرب مادي، أما الشرق فهو روحي! ولكن ماذا يفعل الشرق نفسه؟

تناقض عميق

ليس تناقض روحانية- مادية (هي هنا ماديّة استهلاكية لا فكرية فلسفية) بحقيقيّ. فالشرق نفسه (تحديداً روسيا والصين) يعيش شروط مادية (وزن علاقات الإنتاج الرأسمالية، السوق، الاستهلاك) هي قاعدة مادية للانحدار الروحي الذي عاشه الغرب مبكراً. ففقدان الأهداف والممارسة النقيضة (المشروع الإنساني ودور كل فرد ضمنه كمشارك حيّ له قيمته الملموسة ضمن ممارسة هذا الدور) يترك الهامش للوصول إلى بربرية روحية. فيمكن القول اليوم إن ظروف المجتمع لا يحمل فقط ملامح تذبذب البورجوازية الصغيرة التي تعودنا على قراءتها في الأدبيات (والتي هي مرض المجتمع الليبرالي الذي قلنا عن توسّعه)، بل هو يحمل أيضاً ملامح البروليتاريا الرثة. فالظروف التي تطبع حياة البروليتاريا الرثّة انتقل مركز ثقلها وتوسع نحو الطبقات الأخرى. فالوجود المادي للطبقات الأخرى (بروليتاريا وبورجوازية صغيرة) يرفع وزن روحية البروليتارية الرثة لدى هذه الفئات، ولكن هذا يحصل أكثر ما يحصل ضمن الإطار المعنوي وتصور هذه الفئات عن نفسها وعن العالم من حولها. فليس بالضرورة أن تعيش وجوداً اقتصادياً «رثاً»، بل إن تضخم الجانب المعنوي في حياة الشعوب وسعيها نحو إشباع هذا المستوى من الحاجات يكفي ليخلق وجوداً معنويا رثاً. فنمط الحياة بالنهاية هو قاعدة مادية تتخطى الاقتصاد بالمعنى المعيشي المباشر (وظيفة، أجر ثابت..).


خطر العقلية الـ «رثّة»


عندما تصير العقلية «الرثة» لها حضور واسع يعني ارتفاع الخطر الداخلي في هذه الدول. وخصوصاً في دول توسع فيها وزن الطبقات الوسطى كالصين. فكما حذّر ماو تسي دونغ، وكما حذّر لينين، وستالين، وكاسترو، كتكثيف لخبرة سياسية عملية، أنه أكبر خطر هو الشعور بالرضا عن الذات، وبالتالي انتفاء الفكر النقدي. هذا الخطر أشرنا عن مؤشرات التصدي له في الصين في السنتين الماضيتين، وتحديداً في رفع شعار قيادة الماركسية للحياة الثقافية في البلاد، والهجمة الأخيرة على وسائل التسلية والترفيه السطحي في الصين. ولكن هذه العقلية لا تطل برأسها مباشرة، بل هي تعيش تحت سطح الحدث، في المواقف اليومية للأفراد من كل حدث يدور حولها بدءاً من دورها في علاقات الإنتاج ووصولاً إلى هدفها في الحياة. هذا المستوى من ظهور هذه العقلية حسب التعبير الغرامشي هو وجودها الممارسي والثقافي (كما تسميه أدبيات الأكاديميا: وجودها الإثنوغرفي- السياّقي contextual). هناك تعبير واضح عن ذلك هو الانفصال بين «البروبغندا السياسية» وبين ممارسة الأفراد اليومية بحيث يصير حضور جهاز الدولة أيديولوجياً وسياسياً له شكل خارجي نسبة لمشروع كل فرد، مضاف، لا ترابط عضوياً بينهما. هذا الخطر لا تملك الدول الصاعدة رفاهية استيعابه ولا تأجيل التصدي له. فهو الطريق المادي للمجتمع نحو الليبرالية السياسية. كيف ذلك في هذه المرحلة الوجودية! وهذا لا يحلّ بإجراءات فوقية كما هو معروف، بل بتحولات مادية في نمط الحياة المؤسس لهذا النوع من ملامح العقلية البروليتارية «الرثة»، التي تصبح في وقت من الأوقات وقوداً للمد الجارف إذا ما حصل، وتؤسس للفوضى. فغياب الثبات العقلي والروحي يغذّي هذه الملامح. أليست القوى الاجتماعية عالية «المهنيّة» من أطباء ومهندسين كانت من ضمن المشاركين الفعّالين في قوات الفاشية الجديدة من داعش وأخواتها؟ أليست هذه الفئات هي التعبير الفاقع عن الحالة العقلية للوجود «الرث» على المستوى المعنوي-الروحي في بلداننا والبلدان التي ولّدت هذه الظاهرة؟ إنها كذلك. إنها كظاهرة هي تعبير مبكر لما يمكن أن يظهر كحالة عامة في هذه الدول. فدولنا كانت حقل تجربة مبكرة لباقي العالم!
يحتاج كل ذلك لما هو جوهر الاشتراكية كمشروع إنساني شامل، ولما عبر عنه مكسيم غوركي: بعد أن نجيب عن سؤال كيف نعيش، يجب أن نجيب عن سؤال لماذا نعيش. ولكن اليوم يتلاقى السؤالان بشكل عضوي لا يمكن الفصل بينهما. ما هو مطلوب هو بعث الحياة بحلم نقيض لليبرالية وفتح مبادرة المجتمع إلى أوسع مدى ممكن ضمن شروط كل دولة. هذه الطاقة المبادِرة في إطار عناوين هذا الحلم لا تحصن المجتمع فقط، بل تزيد الطاقة التاريخية للتقدم ملايين المرات. هذا أيضاً من دروس التاريخ التي قدمها لنا مهضومة كل رموز الثورة. ويمكن القول اليوم بما أن الإمبريالية تواجه تناقضها التاريخي وبالتالي تواجه تناقضاتها كلها دفعة واحدة وبشكل متشابك وعميق، صار لزاماً أيضاً في الجهة المقابلة أن يتم تكثيف كل التركة الثورية وصهرها في مركز واحد تحت ضغط وحرارة شروط الواقع الراهن نفسها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1045
آخر تعديل على الأربعاء, 24 تشرين2/نوفمبر 2021 18:58