كيف شرح حاتم علي لنا معنى «الذاكرة الجمعية»
طرحت الساعات والأيام الأولى التي تلت خبر موت المخرج السوري حاتم علي (1962-2020) سؤالاً عجيباً رغم بساطته الظاهرية: ما هي الذاكرة حقاً؟ كيف تتحرّك وتتفاعل مع الأحداث والمعطيّات اليومية وكيف تؤثّر على مجرى الأحداث؟ وامتد السؤال وتشعّب ليصل إلى فهم ماهيّة «الذاكرة الجمعية» التي قد يتشاركها- بطريقة جد مشابهة- ملايين الأشخاص.
كتب الناس كثيراً عن موت علي، لكن الأمر الذي يستدعي التوقّف كان طبيعة الأفكار والمشاعر التي رغبوا بمشاركتها إثر سماعهم خبر موته. هناك فتاة تذّكرت صباحاً مشهداً من مسلسل «عصي الدمع» وهي في سرفيس مزدحم بالركاب. في حين قالت ممثلة شابة: إنها شاهدت حلقة من مسلسل «الفصول الأربعة» قبل ذهابها إلى العمل لتصوير عمل جديد، وكيف أنها فكّرت في الطريق بالحوار السلس الصادق الذي ظل صداه يتكرر في رأسها قبل سماعها بالخبر. في حين عادت ذاكرة فتاة أخرى إلى أيامٍ باردة قضتها في السويد، وكيف أنها كلما شعرت بالوحدة أو الاغتراب كانت تعيد مشاهدة حلقات مسلسل «أهودا إلي صار»، وها هي اليوم تتذكر المشهد كاملاً؛ المسلسل الذي بات جزءاً من مشهدٍ أكبر كانت هي فيه تجلس وحيدةً، وتبحث عن السلوى في شخوص المسلسل وحواراته. ما هي الذاكرة إذاً؟ وتحديداً تلك المرتبطة بتلقينا وتفاعلنا مع مُنتجٍ فني؟
الحد الفاصل بين الترند والحدث الجامع
اعتدنا في السنوات الماضية التململ من الابتذال، والسير وراء الموضة، والانشغال والتفاعل الفارغ والآني مع أي حدثٍ جديد بذات الطريقة، لكن كيف يمكن حقاً التعاطي مع سيل الرثاء الذي غرقت فيه مواقع التواصل الاجتماعي إبان إعلان خبر موت علي؟ هو ربما كان الحد الفاصل بين «الترند» والحدث الجامع. فمئات الأشخاص وجدوا أنفسهم عاجزين عن الصمت، رغم أنهم يعلمون بأن كلامهم قد لا يضيف شيئاً جديداً لكن ذلك لم يكن يعنيهم. هم كتبوا لأنفسهم هذه المرة، فعلوا ذلك على الملأ لأنهم أرادوا أن يكون صوتهم جزءاً من الضوضاء والصخب الذي أعقبت موت حاتم علي. أرادوا له موتاً صاخباً يليق به. لكن هذا الالتفاف حول موته يستحق التفكيك؛ كيف نجح علي في امتلاك مشروع جامع، يمس الجميع ويصبح جزءاً من ذاكرتهم؟ كيف استطاع أن يتحدى التفاهة؟
الذاكرة الجمعية.. الذاكرة الوطنية الشعبية
حظي مصطلح «الذاكرة الجمعية» نفسه بكثير من الاهتمام في السنوات السابقة، وهو المصطلح الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليدلل على التجمّع المشترك لمعارف ومعلومات محددة في ذاكرة شخصين أو أكثر. وفي سياق التداول العام، تم تفضيل المصطلح على «الذاكرة الشعبية» أو «الذاكرة الوطنية»، ويمكن تبرير ذلك بالنزوع العام لإسقاط الطابع السياسي أو الشعبي من فكرة الذاكرة ذاتها. لكن سواء كانت الذاكرة المرتبطة بحاتم علي جمعية، شعبية، أم وطنية، المهم تحليل عناصرها.
وضوح المشروع
حينما نتحدث عن حاتم علي، نحن هنا نتحدث عن مشروع متكامل ومُركّب على صعيد المقولات أو آليات العمل. فهناك من جهة الدمج بين السياسي والواقعي المُعاش واليومي. وهناك أيضاً الدمج بين الحاضر والماضي، والإصرار على إعادة قراءة التاريخ، والبحث عن الخط المستمر الذي يجعل فهم اللحظة الراهنة غير ممكن دون تتبع تطورها في سياق سابق.
المشروع المّركب ظهر أيضاً على صعيد الشراكات (بمعنى ثلاثية المؤلف والمخرج والممثل)، فعمل علي لا يمكن مقاربته أو تحليله دون التطرّق لخيارات النصوص من جهة، ودون الحديث عن المهارة في اختيار الممثل القادر على إكمال إغلاق هذه الحلقة. ولهذا كان من اللافت مثلاً: ندرة الشهادات التي تحدثت عن الجوانب التقنية التفصيلية في عمل حاتم علي كمخرج، بمعنى لقطات التصوير، وإدارة المشهد والعمل مع الممثل. فتلك الملاحظات ورغم أهميتها لم تكن وحدها كافية لإيضاح أهمية خصوصيته التي حولته من مخرج إلى مشروع، وجعلت الذكرى المرتبطة به جمعية بدلاً من فردية.
فلنأخذ على سبيل المثال: الموقف من الفصول الأربعة؛ كيف يمكن ل 17 عشر شخصية أساسية أن تمثّل هوية ما يقارب 23 مليوناً؟ أو كيف يمكن لعائلة واحدة أن تختصر معظم شرائح المجتمع السوري. كثيراً ما يقال بأن عائلة الفصول الأربعة كانت عائلة متوسطة نموذجية، لكن في الحقيقة هي تتضمن شخصيات من كافة فئات المجتمع. والصراعات والأحداث العائلية، الخاصة والعامة، التي تحصل على امتداد جزئي العمل، تنتج مباشرة من التفاعل بين طبقات المجتمع الثلاث.
كان الاجتهاد أحد أبرز السمات التي تكرر الحديث عنها على لسان مخرجين وممثلين عملوا مع علي، والاجتهاد هنا يعني من جهة: الثقافة الواسعة، ويعني أيضاً: هضم هذه الثقافة وإخراجها بقالب لا يهادن فيما يتعلق بالقيمة الفنية وجرعة المتعة. من سمات مشروعه أيضاً: عدم التخلّي عن القيم الوطنية، وتحديداً فيما يتعلق بإصراره العمل على «التغريبة الفلسطينية». ففي مقطع تم تداوله بكثرة في الأيام الماضية، نرى حاتم علي يتحدث حول الصعوبات التي واجهته في إيجاد جهة تقبل إنتاج هذا العمل. وكذلك الأمر فيما يتعلق بنص سيناريو ممدوح عدوان» الزير سالم» الذي رفضت إنتاجه الكثير من شركات الإنتاج بسبب مضمونه السياسي وتكلفته العالية. وتعقيباً على معالجة قضايا تاريخية إشكالية في أعمال درامية، علّق علي في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «لا يكفي مقاربة موضوع مهم، بل لا بد من أن توفّر لهذا العمل سويّة إنتاجية كي يتم إقناع الذين يتربصون بهذا النوع من الأعمال».
وفي تعليقه على استعادة الشخصيات التاريخية يتحدث علي في مقابلة تلفزيونية عن الأسوار التي وضعها التاريخ العربي فيما يتعلق بالحياة الشخصية للرموز التاريخية، ودور الدراما في سد ثغرات من هذا النوع. ونراه في موضعٍ آخر يتحدث عمّا أسماه «تغليب الحياة الداخلية للشخصية على شكلها الخارجي» وخيارات المخرج فيما يتعلق بأشكال الشخصيات، وتحديداً الأيقونات التاريخية. وبالتالي، علي ضمن مشروعه لم يكتفِ بالعمل على المقولات، بل حوّلها إلى أشخاص من لحم ودم، سواء كانت تلك الشخصيات بطلاً تاريخياً أو رجل أعمال أو أستاذ جغرافيا، لأن الذاكرة في المحصلة ستتشكل من هؤلاء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 999