قاسيون: التمايز الضروري أمام التماثل المميت
على الرغم من مشاعر البؤس والسواد والهزيمة التي حاول مشعوذو الرأسمالية إلباسها لعالمنا الفكري والنفسي في مرحلة التراجع الثوري وانهيار الاتحاد السوفييتي، بقي عقلٌ ناجٍ شكل منارة للتائهين الذين سيأتون هائمين بحثاً عن نورٍ وعن دفء ما. عقلٌ ينطق باسم الضرورة التي أعلنوا انتهاءها. ينطق بلغة التناقضات القديمة المتجددة، وتلك الجديدة. عقلٌ ينطق بالأمل المُصارِع. بناء الأمل هذا هو أحد أهم وظائف القوى الثورية حسب آخر أمين سر للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، «أوليغ شينين»، ممّن عَبَروا بين عصرين تاريخيّين. شينين الذي أعلن نبوءة عمّا سيعمّ عالمنا من تسطيح وسقوط في القيم والمعايير، وعمّا يعنيه وجود تلك المنارة الثورية.
التموضع تجاه الأزمة
في العام 2012 كانت الأزمة الرأسمالية تنهش شيئاً فشيئاً العالم الذي تَشكَّل طوال العقود الماضية، وتحديداً منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كانت الأزمة تنهش الأوهام نفسها التي باعتها الرأسمالية مغلفةً بسموم الليبرالية البرّاقة. وكانت الدول الطرفية المأزومة داخلياً تتداعى بنيوياً، وتعاني من توظيفات الفاشية العالمية والتدخل العسكري الإمبريالي المباشر. هذا الاختلال المادي انعكس اختلالاً قد بدأ يشق طريقه إلى الوعي عامةً، والوعي السياسي خاصة. وكانت أغلب القوى الثورية التقليدية تقف أمام المشهد «مسرورة» من أن الرأسمالية ليست نهائية، ولكن وكأن هذه القوى عادت من سُباتها الفكري- السياسي الطويل، فصار الواقع أمامها كالزئبق يهرب من بين أصابعها. أمام هذا المشهد تماثلت أغلب القوى من مختلف مواقع اليمين واليسار في أزمتها. تماثلت في عجزها أمامه. فكان ضرورياً، على المستوى المعرفي، لكلّ فرد حاول إيجاد الإجابات عميقاً، عبر مساءلة التناقضات، كان مهماً له أن يلتقي بتلك المنارة الثورية المتقدمة معرفياً، يرتّب معها أفكاره، فيتفاءل، ويثبِّت قناعاته التي وصل إليها مسبقاً، فلا يعود وحيداً في سياق حفلة الجنون العالمية تلك. وقتها كانت الأزمة السورية قد دخلت عامها الثاني، وكان الانقسام الثنائي (مؤامرة- ثورة) قد سيطر على السردية السياسي في سورية والمنطقة، هذا الانقسام الذي تتماثل أطرافه في موقفها التبسيطي (إذا ما أخذنا جانب القوى حسنة النية طبعاً).
اختراق المشهد
كان المشهد المغلق هذا عصياً على القوى السياسية التغييرية التي لم تقم بتقييم مرحلة التراجع طوال العقود الماضية، وتلك التي لم تقم بدراسة الجديد التاريخي، وتناقضاته، وقانون حركته العام، وحددت إستراتيجيتها وتكتيكها بناءً على هذه الرؤية. أما من قام بهذه المهمة فكانت الموجة العالمية للضرورة التاريخية رافعة له ليقوم بدوره تجاه شعبه وتجاه البشرية. و«قاسيون» كناطق رسمي باسم حزب الإرادة الشعبية تمكنت من لعب هذا الدور، محمولة على الرؤية التي صادفتني أواخر العام 2012 عبر وثيقة لجنة وحدة الشيوعيين السوريين. كتيّباً صغيراً، كان كافياً وقتها للتأكيد أن الجديد على قلة ظهوره، ستقرّبه الضرورة. فكانت القدرة على التقاط الضرورة نظرياً أساساً للتنبؤ بالمستقبل من جهة، وفي التعامل مع الحدث من موقع الواثق. هكذا حصل التمايز الضروري. فعلى الرغم من الضخ الإعلامي والمالي النقيض، تمكنت «قاسيون» كتعبير عن الحزب السياسي أن تتقدم المشهد، لا لشيء إلّا لأنها تحاول النطق باسم الضرورة. هذه الضرورة التي لا يمكن للواقع الإفلات منها مهما تم تمويهه والتشويش عليه. فأن يستدعيك الواقع هو القوة التاريخية بعينها.
تغيير في الانقسام الدولي
الانقسام الثنائي المضلِّل لم يكن خاصاً بسورية فقط، أو لبنان أيضاً، بل كان عالمياً. ولهذا، ليس من المبالغة القول، تكراراً لما قاله د. قدري جميل أمين حزب الإرادة الشعبية: إن موقف قاسيون كتعبير عن موقف حزب الإرادة، قد قسم العالم ضدياً في الموقف من سورية. فوجود هذه المنصة في سورية منع المشهد من أن ينغلق على تماثل بين مختلف قواه في دوامة مميتة، مهما تأخر التحقق العملي للحلّ السياسي. فوجود المنصة المتمايزة كان كفيلاً بكسر احتكار السردية المغلقة للحركة، وسمح بأن ينعكس التوازن العالمي الجديد داخلياً بشكله السياسي المكتمل.
تأخر لا بد منه
على الرغم من الفعالية السياسية ضمن سياق الحدث السوري ربطاً بالإطار الدولي وتوازنه الجديد، كان تلقف هذا الدور الخاص بقاسيون في مختلف الدول العربية من قبل القوى الثورية المفترضة متأخراً وغالباً ملتبساً. وهذا يعود إلى اضطراب في الرؤية السياسية لهذه القوى نفسها. التي تخضع للانقسام الثنائي المضلِّل نفسه، وإلى حاجة لأدوات إعلامية فضائية تأخرت هي أيضاً. ولكن هذا لم يمنع أن تلعب قاسيون درواً في تعديل المشهد المنقسم عبر إجابتها عن هواجس تتجاوز الملف السوري نفسه، وتتوسع نحو الأسئلة السياسية العالمية والعلمية والمعنوية والبيئية والفنية الجمالية...
وهذا التأثير- وإن كان متأخراُ بعض الشيء، بسب ظروف موضوعية، وغالباً ذاتية مرتبطة بالظرف الخاص للدول الأخرى- هو تأثير ضروري يجب على قاسيون أن تثبت دورها الضروري فيه، أولاً: لمحاولة تعويض النقص في طرف الخط الجذري. وثانياً: لضرورة التعبير عن أممية الصراع وأممية المواجهة، في ظل مرحلة شديدة الترابط وشديدة التسارع. وإن أي تقدم لهذه الفكرة في أي مكان، يعني تقدّمها في كل الأمكنة الأخرى.
الاختلاف حياة الزمان
قال مهدي عامل في تعبيره الشعري: إن في التماثل الموت والاختلاف حياة الزمان. إن من أهم شروط تحقيق الحياة بفعالية إذاً هو: أن نعي التناقض خالق التمايز، فنشق للضرورة طريقها بوعي. إن دور صناعة الأمل وكسر احتكار المشهد قد يغيب أحيانا في معمعان الحدث الصاخب، ولكنه حاضر فيما وراء الصورة، وأساس لها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1000