باولو سورنتينو... قصيدة لروما المعاصرة
إنّه بورتريه ساخر ومفعم بالحياة عن تلك المدينة التي تتنازعها أشباح الآلهة والتماثيل الرومانية وإرثها الديني المتمثل في الفاتيكان، وحياتها الليلية الصاخبة المجنونة. المخرج الذي نال عن شريطه «الجمال العظيم» أوسكار أفضل فيلم أجنبي، يذكّرنا بعوالم فيلليني في طريقة مقاربته للمدينة الإيطالية.
«الجمال العظيم» لمخرجه باولو سورنتينو (1970) الحائز جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي هذه السنة هو احتفاء فعلي بالسينما الإيطالية، وبمدينة روما المعاصرة. الفيلم الذي قدِم في عرض خاص في بيروت أخيراً، يبدأ بعبارة من رواية «رحلة إلى آخر الليل» للكاتب الفرنسي سيلين: «السفر مفيد. إنه يمرن المخيلة. الباقي كله فقط سراب وألم. رحلتنا هي متخيلة بالكامل. ومن هنا تنبع قوتها» .
La grande bellezza هو سفر فريد من نوعه داخل عالم السينما. بقدرته على الإذهال البصري وبشخصياته المتفجرة وتجوال البطل العبثي، يذكّرنا بأعمال فلليني، وخصوصاً «الحياة حلوة». وبطريقة تصويره لمدينة روما، قد يتشابه أيضاً مع «روما» وحتى «ثمانية ونصف» من خلال تشابه شخصية جيب مع غيدو، وتلك الرحلة البصرية الحالمة التي يأخذنا إليها الفيلم. رحلة تتناقض مع الجمالية الفجة التي يعرضها المخرج في لقطات أخرى، خالقاً عالمين متوازيين يعيشان ضمن المدينة الواحدة كما المشهد السوريالي للجرافة العملاقة التي يخفيها الساحر في آخر الفيلم.
«لماذا لم تكتب رواية ثانية؟». سؤال يطرح غالباً على الكاتب الستيني جيب غامبرديلا الذي يلعب دوره الممثل الإيطالي توني سرفيللو بينما يتنقل من سهرة صاخبة إلى أخرى في روما، ومن شخصية إلى أخرى، في رحلته إلى آخر الليل، إلى آخر روما، بحثاً عن الجمال العظيم. يخبر الراهبة المسنة في آخر الفيلم أنّه لم يجده، لذا لم يكتب رواية ثانية. من خلال لغته السينمائية أيضاً، يبحث العمل عن ذلك الجمال العظيم الذي لا يستطيع الكاتب وصفه بكلمات. وحدها هذه الرحلة البصرية (السينما) التي تبدو كأنّها رحلة هذه الحياة نفسها، قادرة على تمثيل الجمالية المذهلة للا شيء كما يقول جيب لصديقه في حديثه عن الكاتب الفرنسي فلوبير: «لطالما أراد فلوبير أن يكتب رواية عن اللا شيء. لو كان تعرّف إليك، لكان عثر على ضالته». لا شيء يحدث فعلاً في الحياة التي يعيشها البطل. الكل يدور في الحلقات المفرغة نفسها، كما رقصة القطار التي يؤديها ورفاقه في آخر كل سهرة ويعلّق عليها قائلاً: «أجمل ما في هذا القطار أنه ليس متجهاً إلى مكان». دوامة من العبث يعيشها الكاتب، باستثناء شبح الحب متمثلاً بحبيبته الأولى. بعد وفاتها، يزور زوجها جيب ليخبره بأنها لم تتوقف يوماً عن حبه وفقاً لمذكراتها التي عثر عليها. مشهد ذلك البحر المسجون في سقف غرفته، يشكّل الحنين إلى شيء خفي. قد يكون الجمال العظيم نفسه الذي ربما هو إحساسنا الأول بالأشياء. تلك الدهشة التي نفقدها مع الزمن كما يظهر من خلال مشهد جيب وحبيبته على الشاطىء في نهاية الفيلم حين يحاول تقبيلها للمرة الأولى، فتشيح بوجهها ثم تبتعد قليلاً وتقول له: «أريد أن أريك شيئاً»، وتخلع قميصها. الفيلم بورتريه ساخر لكن مفعم بالحياة في آن معاً. نحن أمام روما المعاصرة المتنازعة بين أشباح الآلهة والتماثيل الرومانية وتراثها الديني المتمثل في الفاتيكان وحياتها الليلية الصاخبة المجنونة، ووجوه النساء البلاستيكية المنفوخة بالسيليكون. يمزج المخرج بين كل هذه العناصر ببراعة ليرسم بورتريهاً لروما المعاصرة. لعلّ أكثر المشاهد التي تعبر عن هذه الرؤية عندما تأتي الراهبة «القديسة» إلى الفاتيكان ويتناوب الجميع على تقبيل يدها، بينما نراقبها وهي متسمّرة في مكانها تجاهد لتفتح عينيها بينما ينزلق الخفّ ببطء من رجلها إلى أن يسقط أرضاً في النهاية. شخصيات متطرفة ومتناقضة يضيفها المخرج الواحدة تلو الأخرى من إبنة رفيقه صاحب الملهى الليلي الأربعينية التي لما تزل تعمل كمتعرّية بدافع المتعة فقط، إلى الراهبة التي تجاوزت المئة وقد نذرت نفسها للفقر والعذاب. ليس مهماً أن نفهم طبيعة الشغف الذي يسيّر هذه الشخصيات أو أي جمال عظيم تنشد. وحدها الرحلة هي المهمة كما تقول الراهبة العجوز في نهاية الفيلم حين تخرج عن صمتها: «لا تستطيع أن تتكلم عن الفقر، عليك أن تعيشه».
المصدر: الأخبار