الأغنية الشعبية وأسئلة الأصالة

الأغنية الشعبية وأسئلة الأصالة

تمتلك محافظة السويداء موروثاً غنائياً ضخماً- من قصائد الفن والهوليّات والجوفيّات- الذي كان يتم أداؤه بصورة حيّة وجماعية في المناسبات الاجتماعية المُختلفة. لكن قلة من هذه الأغاني نجحت حقاً في تجاوز عتبة المحافظة نحو المدن السورية الأخرى، بعد أن عمل على نقل بعضها المغني داود رضوّان والمطرب الشهير فهد بلّان. رغم أن الأخيّر، وإن كان لم يعد غناء الأغاني التراثية ذاتها، إلا أنه نقل شيئاً من أساليب الغناء في المنطقة، وتركيباتها اللحنية، ودرجة الحماسة المرتبطة بأغانيها.

ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى أوائل الألفية الجديدة مع إصدار ألبوم جمع حينها مجموعة أغانٍ مستحدثة باللهجة المحكية اشتهر منها: «ومنين أبدا يا قلبي» و«بس احكيني». وقد يتذكر من عاش في محافظة السويداء في ذلك الوقت ردود الفعل التي تلقى فيها المجتمع المحلّي هذا الألبوم. فبالرغم من انتشاره الشديد وإمكانية سماعه في السوق ومحلّات أشرطة الكاسيت وحفلات العرس، لكن كثيرين لم يأخذوا العمل «على محمل الجد». بدت الأغاني أقرب للمزاح الذي يوظّف قالب الأغنية التراثية. فلا أغنية تراثية قديمة يمكن أن تحتوي عبارة مثل: «كل ما بتدعيني أشرب كاسة كونياك بذوق العنّاب بيطلع جنّ بليمون». لكن المزحة انقلبت جداً، ومع الوقت باتت هذه الأغنية تمثّل تراث المحافظة الموسيقي دون أن يميّز البعض أنها أغانٍ جديدة تماماً. 

محبوب قلبك: درسٌ في الجناس

بعد سنوات تلت ذلك، عادت أغنية قديمة أخرى من السويداء لتستقطب اهتمام الموسيقيين داخل سورية وخارجها، وكانت هذه المرّة أغنية أصيلة من التراث الغنائي في المنطقة الجنوبية. يقصد بالكلام أغنية محبوب قلبك التي كتب كلماتها الشاعر سلّمان نفّاع عام 1942، ولم يُعرف من لحّنها أو أداها للمرة الأولى. 

بخلاف الكثير من الأغاني التراثية للمنطقة التي تتغنى بالبطولات والمعارك وقيّم الفروسية وإكرام الضيّف، كانت أغنية محبوب قلبك ببساطة أغنية حب. اخترقت رقة هذه الأغنية بكلماتها المُكررة مطواعة المعاني، ولحنها المُميز جدار الأغاني الصلبة والحماسية الأخرى. كانت تبدو أشبه بنداء يعلو ويُسكت الجميع. جاءت خصوصيتها الأساسية من ذكاء الشاعر في توظيف الجناس الذي يُعبّر تماماً عن الأحاسيس المُتناقضة المتطرّفة، التي تتركها تجربة حب جارفة، ترفع بالمرء عالياً نحو السماء، ومن ثم تنزله للأرض دفعةً واحدة. وتقول بعض كلمات القصيدة: 

«محبوب قلبك بالهوا سميتني.. ومن بعد ما سميتني سميتني\ عليتني ع جوانحك فوق السما... ومن بعد ما عليتني عليتني\ عليتني ع جوانحك فوق السما.. وصرت تحاكيني بالإشارة وبالوما\ جريتنـــي من الظلـــم بي ميل العمى.. ومن بعد ما جريتني جريتني» 

ألف نسخة ونسخة

عند تتبع النسخ المُستحدثة من تلك الأغنية يندهش المرء من طول القائمة؛ فعلى صعيد عربي، سبق وقام الفنان اللبناني نصري شمس الدين بأداء البيّتين الأولين من هذه القصيدة. إذ تشير بعض المراجع بأن الشاعر سلمان نفّاع أهدى قصيدته بعد 20 عاماً من كتابتها للفنان الكبير، الذي غنّاها كمّوال في حفل ضخم أقيم في مدينة اللاذقية عام 1962. أما أغنية محبوب قلبك الذي نعرفها اليوم لحناَ وكلمات فقدّ أداها أيضاً المغني الأردني عمر العبد اللات.

أما على صعيد سوري، أعاد تسجيل هذه الأغنية كل من المغني لؤي العقباني، والمغنيّة ميس حرب، في حين أداها الفنان السوري الفلسطيني محمد نور أحمد، واختار العازف السوري يزن صبّاغ إعادة توزيعها وعزفها على آلة الكلارينيت. هذا وسبق أيضاً أن قدّمت فرقة (Orphé) في برلين بمصاحبة عازف الكمان السوري أيمن هلال توزيعاً موسيقياً آخر للأغنية على آلات (التروبيت، والإيقاع، والكمان، والعود، والجيتار، والأكورديون) وتمتلك هذه النسخة شحنة عاطفية تقّرب الأغنية للطابع الجنائزي. وجاء ختام تلك الاستعادات نسخة فرقة تكات، التي أصدرت قبل أسبوعين فيديو جديداً يتضمن أداءً مُسجلاً لأغنيتين من السويداء «بس حكيني» و«محبوب قلبك». جاء التسجيل الجديد تحت شعار «الترّاث من منظور آخر» بحيث يظهر أعضاء الفرقة جالسين أمام بناء من حجر البازلت الأسود، وحولهم بعض البسط والوسائد المشغولة يدوياً إلى جانب دلّات القهوة المُرّة، في إشارات مباشرة وسطحيّة تختصر مفهوم التراث والأغاني التراثية، وتجمع بإجحاف بين أغنيتين من غير العادل الجمع بينهما، على اعتبار أن كل ذلك على بعضه يسمّى «ترّاثاً». وكان من اللافت للبعض أن ترعى وزارة الثقافة السورية، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون هذا العمل، على اعتبار أنها محاولة لتعميم هذا النموذج من التعاطي مع الإرث الموسيقي. 

الأغاني الشعبية كما يجب أن تكون 

في المُحصّلة، تدلل كثافة النسخ المُعادة للأغنية على خصوصيتها التي جعلتها تلامس أجيالاً مختلفة من المستمعين عبر الزمن. لكن كثافة الاهتمام بها لا تٌغطّي على تفاوت مستوى النسخ، من حيث جودة الأداء والتوزيع. فبعض تلك التسجيلات كان تجارياً محضّاً يدخل في إطار «سوق الأغاني التراثية المُستعملة» المُعاد إنتاجها مع تنويعات و«تخبيصات» تُفقدها مرة بعد أخرى جزءاً من قيمتها الأصلية. في حين يمكن تلمّس محاولات أخرى لتقديم الأغنية بصورة لائقة أكثر، سواء نجحت تلك المحاولات أو فشلت.

لكن ورغم هذا التفاوت في القيمة الموسيقية، يشعر الكثيرون ممن تربوا على سماع هذه الأغنية، أن جميع النسخ الجديدة لا تشبه إطلاقاً «محبوب قلبك» التي تحفظها الذاكرة. ففي الحقيقة، الأسئلة حول درجة الأصالة، وقدرة التجارب الموسيقية الجديدة على هضم التراث، وإخراجه بصورة جديدة لا تقتصر على هذه الأغنية، بل تتعداها وصولاً إلى الكثير من الأعمال التراثية. فالتراث الموسيقي تراث حي، مستمر ومتجدد، يغري الموسيقيين بإعادة خلقه وإنتاجه مرةً بعد أخرى. لكن الأسئلة هنا ترتبط بسياق وأهداف وأدوات هذا الخلق، والإضافات التي تركتها التجارب الجديدة على الأصل. 

رغم الاكتظاظ في عدد النسخ المستجدة، نرى الكثيرين ممن تربوا على ألحان «محبوب قلبك»، يفضّلون الرجوع إلى أرشيفاتهم العائلية، للاستماع لصوت أحد الأقارب أو الأصدقاء وهو يؤديها بمصاحبة الجالسين حوله. هي تسجيلاتٌ مشوشة قد لا تمتلك في الظاهر قيمة موسيقية حقيقية، لكنها تلتقط ما تكاد تغفله جميع النسخ الأخرى: الصدق، والسياق، وطقس الأداء الجماعي والتلقي الجماعي لأغنية شعبية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
995