«النار» من المجاز إلى الحقيقة

«النار» من المجاز إلى الحقيقة

يُفضّل الناس أن يروا النار تنبعثُ برفقٍ من شعلة الأولمب في الألعاب الرياضية، كمحاكاة لاحتفال بدائي بالإله بروميثيوس الذي قام، وفق المثيولوجيا الإغريقية، بسرقة النار من زيوس وإعطاءها للبشر. أو يفضلونها محاطة بحجارة في رحلة تخييم، يشوون عليها قرون الذرة الصفراء، أو قطع المارشميلو على غرار ما يفعل الأبطال في أفلام هوليوود.

يفضل الناس ناراً طيّعة، محاصرة، تُذكّرهم حينما يتأملونها بفضول جدهم الأول الذي لم يتوقف عن ضرب حجر صوانٍ بآخر حتى انطلقت الشرارة التي بدأ منها كل شيء.
لا تبدو «نار المارشملو»، بأي شكلٍ من الأشكال ذات النار التي تلتهم غابات صلنفة ومصياف، أو التي التهمت قبل ذلك غابات الأمازون، وغابات كاليفورنيا، ومحلات البزورية في خان أسعد باشا، أو كاتدرائية نوتردام. فالنار كما يبدو سمة هذا العصر.

حينما تفحّمت روما

بخلاف أشكال الدمار الأخرى، لا تتيح النار للمرء وقتاً كي يتأملها، فهي تمشي وتقترب نحوه مهددة بالتهام أوراقه، أو التهامه قبل أن يتمّ جملته.
لا بد أن نيرون كان يقف على مبعدة كافية دون الخوف من الأذى، حتى استطاع مراقبة النار وهي تلتهم روما خمسة أيامٍ متواصلة. تتضارب الحكايات عمّا حصل حقاً في ذلك الحين، كان ذلك سنة 64 ميلادية، حينما التهم الحريق معظم أحياء المدينة. هناك من المؤرخين من يقول: إن نيرون كان متحمساً لحرق روما كي يُعيد بناءها وفق الصورة التي أرادها في مخيلته، أو أنه أراد أن يبني قصراً واحتاج إشعال الحريق لضرورات المساحة. فيما يقول البعض بأنه أرسل سكارى كي يضرموا النار ويزيدوا في اشتعالها، أو أنه ارتدى ثياباً مسرحية وطفق يغني بينما المدينة تحترق. فيما ينفي آخرون كل ذلك، ويقولون بأنه فعل ما في وسعه لإطفاء الحريق، وفتح أبواب قصره كي يلجأ الناس إليه. لا يهم ما كان يفعله نيرون حقاً، ولن يعرف هو بأنه تحوّل إلى مجازٍ للقوة التي لا ترى ضيراً من إحراق مدينة لتحقيق أهواء فردية، حتى لو كانت المدينة روما، أعظم مدن التاريخ.

روح النار

يمتلك الحريق، بخلاف أشكال الدمار الأخرى، روحاً، كما الفيضانات ربما. فالاثنان يعبران عن الطبيعة في صورتها المتحركة. هناك أمرٌ ما يرتبط بتحوّلات النار بتأثير الزمان والمكان؛ فالنار تبدأ صغيرة ثم تكبر، شرارة لا تكاد تُرى، تمسي لهباً ثم تشتعل، ينبعث منها الدخان، وتحوّل ما عبرت به إلى جمرٍ ثم رماد. يختلف إيقاع النار حينما تمشي على غصن شجرة أو تزحف فوق برميلٍ من الديناميت. كما أن لها هوية طاغية، من حيث اللون والحرارة والرائحة، فهي تشن هجوماً على حياة المرء وحواسه في الوقت ذاته.
فالنار، كما تقول الفيلسوفة الأمريكية سوزان لانجر: «رمزٌ طبيعي للحياة والشغف، على الرغم من أنها إحدى تلك العناصر الذي لا يمكن لأي شيء أن يعيش داخلها». ولهذا ربما يفضّل الناس عادة «النار الرمزية» على تلك الحقيقية؛ تلك التي تعبّر عن الرغبة، أو إرادة الحياة. فهناك عبارة شهيرة تقول: «اترك ناراً صغيرة مّشتعلة، مهما كانت صغيرة، مهما كانت مخفيّة». فالنار هنا رمزٌ للثورة، وإعادة البعث من قلب الرماد. في حين يقول أحد الأمثال الشعبية المتداولة في تشيكوسلوفاكيا: «النار التي لا تحرقك، لا تطفئها». كما لو أن كل وجهٍ آخر للنار، سوى الذي نراه في الحريق، مرغوب.
هذا وتتجلى النار أيضاً كدرسٍ عملي في الكيمياء، يجب تعلمه قبل فوات الأوان. فعبارة: «قابل للاشتعال» يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وكذلك الأعاجيب التي يستطيع فعلها مُركب (O2) الذي ينفخ القوة في النار ويزيد من اشتعالها. وهذا ربما ما دفع الكاتب النمساوي أوتو فينينغر للقول: «من بين الأشياء اللافتة حول النار حاجتها للأكسجين كي تحترق، تماماً كعدوتها الحياة، ولهذا ربما كثيراً ما يتم مقارنة الحياة بالشعلة».

تعلّم إخماد النار كما إشعالها

لطالما اندلعت الحرائق، لسببٍ أو لآخر، وهذا ليس بالأمر الجديد في مسيرة التاريخ، فالصدفة قد تلعب دوراً كبيراً هنا. لكن الأمر الذي يستحق التمعّن، هو كثافة الحرائق في السنتين الأخيرتين، مقابل ضعف مقدرات الإنسان أمام النار على الرغم من كل ما يُقال عن الشوط الكبير الذي قطعه العلم والتطوّر التقني في هذا العصر. فانفجار بيروت مثلاً ابتلع فوج إطفاءٍ بأكمله، كما لو أن ذلك بمثابة رسالة تؤكد بأن ترسانات الأسلحة، والمتفجرات، ما زالت الأكثر تقدماً، وهي قادرة على التهام فرق الإنقاذ وإجراءات السلامة.
النار تُعلمنا أيضاً التفريق بين الأسباب والذرائع، فذرائع الحريق قد تكون واهية، مثل: قشة كبريت، عقب سيجارة، ماسٌ كهربائي، موجة حر، أما الأسباب التي تتخفى وراءها أعمق من ذلك بالكثير. فرمي عقب سيجارة مشتعل يدلل مثلاً على خللٍ في بنية ثقافية كاملة، لا تكترث بعواقب أفعالها. أو يكون الحريق ببساطة تتويجاً لأزمات المناخ والاحتباس الحراري وارتفاع حرارة الأرض بفعل التلوّث الذي أحدثته المنظومة الصناعية الحالية، بحيث يجعلنا ذلك نتنبأ بحرائق كثيرة قادمة. أو تكون بعض تلك الحرائق مُفتعلة لخدمة أهدافٍ سياسية بحتة كنشر المزيد من الفوضى، وزيادة تكريس إحساس الناس بالخطر وغياب الأمن، في عالمٍ يبدو فيه كل ما حولهم قابلٌ للاشتعال، حتى أجسادهم. أيٌ من تلك الحرائق كان بفعل فاعل أو بمحض الصدفة؟ لا يهم حقاً، فالمنظومة السياسية- الاقتصادية القائمة هي المسبب، بما فيها من جشع، وتهافت من أجل شراء السلاح قبل المعدات الطبية، أو مستلزمات الاستجابة للكوارث. المنظومة ذاتها هي المسبب مع كل الأنظمة السياسية التي ولّدتها، والتي لا تتوانى عن إضرام النار بالعالم أجمع حتى تحمي مصالحها. ولذلك فالنار اليوم أشد التعبيرات بلاغة عن الجنون الذي نعيشه، العالم يحترق حقاً. والنار التي نشاهدها اليوم في الصور وعلى شاشات التلفاز هي نارٌ واقعية ومجازية في الوقت ذاته. يبقى السؤال هنا حول شكل العالم الجديد الذي سيولد يوماً ما من تحت كل هذا الرماد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
983
آخر تعديل على الإثنين, 14 أيلول/سبتمبر 2020 12:32