العقل السقيم للرأسمالية المأزومة
محمد المعوش محمد المعوش

العقل السقيم للرأسمالية المأزومة

المادة السابقة تناولت مسألة الانتحار وبعض الأرقام العالمية حولها، مما يظهر المادة الاجتماعية من الأزمة العميقة لنمط الحياة الرأسمالي تاريخياً. وعلى الرغم من أن المادة السابقة تناولت أرقاماً حول الأمراض المصنفة “جسدية”، كأمراض القلب والسرطان، وأشارت إلى الارتباط بين الجسدي والعقلي، فإن المادة الحالية ستحاول تقديم بعض الأرقام حول «الاضطراب» العقلي الذي يشكل القاعدة الأساس للمرض الجسدي والانتحار على السواء. فالعقل والجسد يشكلان وحدة لا يجب الفصل القسري بينهما.

حول التصنيف المقلوب

عادة يكون الكلام السائد عن الاضطرابات العقلية أنه عدم تلاؤم للفرد مع الواقع، في النظريات العلمية السائدة كما في المواد الصحية العالمية، وكذلك في الممارسات الصحية النابعة من هذه القاعدة المعرفية. ولهذا يكون «العلاج» نابعاً من هذا التصنيف، إما عبر العلاج الدوائي، أو عبر دفع الإنسان الفرد نحو استيعاب أزمته وتطويع عقله من أجل التلاؤم. والحصيلة، يبقى النظام المعادي للإنسان مؤبداً، فلا علاج لهذا النظام، فالفرد هو المحور في هذه الممارسة السائدة. مع أن الغالبية من الجماهير التي تملك قدرة ربط وتحليل بسيطة، صارت تدرك أن أزماتها المعنوية نابعة من تفاصيل حياتها اليومية، ومن الاتجاه العام لهذه الحياة. إنه تصنيف رأسمالي للأزمة العقلية، ولو أنه حمل في بعض طروحاته كلاماً عن «مشاكل» في المجتمع يجب تغييرها، ولكن تبقى كلاماً إصلاحياً لا أكثر، دون الاقتراب من أسس النظام الرأسمالي الناظم لعلاقة الفرد بالمجتمع وبنفسه. ونجد كلاماً في تقارير منظمة الصحة العالمية حول الصحة العقلية على شاكلة: «ليس الاضطراب العقلي هو فشل فردي، وإذا وجد فشل ما، فهو موجود في طريقة الاستجابة تجاه الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية ودماغية». وهذه الاستجابة لا تخرج عن كونها تصدياً فردياً لا اجتماعياً للأزمة.

بعض الأرقام حول «أزمة» السياسات الصحية

ما ينتج عن هذا المنطق المقلوب في التصدي للأزمة العقلية، هو الاعتبار بوجود «نقص» في القدرة الاستيعابية الطبية والاستشفائية والتدخلية لدى الدول تجاه الحالات التي تعاني من مختلف أنواع الاضطراب العقلي- الذهني. هذا النقص هو إما مادي مباشر كالنقص في الأسّرة، وإما هو نقص في التشريعات والقوانين والخطط الصحية. فحسب تقرير الأمم المتحدة حول الصحة عالمياً، هناك ضرورة «لتفعيل القرارات والخيارات الاستراتيجية من أجل وضع تغييرات إيجابية لقبول وعلاج الاضطرابات العقلية»، وهذا التدخل يجعل «الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية قادرين على عيش حياة منتجة». وحسب التقرير فإن أكثر من 33% من الدول تخصص أقل من 1% من ميزانياتها للصحة العقلية. بينما 33% من الدول تخصص فقط 1% من ميزانياتها للصحة العقلية. و25% من الدول لا تتوفر فيها الأنواع الثلاثة الشائعة من العقاقير المستخدمة لـ«علاج» الفصام (سكيزوفرينيا)، الإكتئاب، والصرع. وفي أكثر من نصف البلدان يوجد فقط طبيب نفسي واحد لكل 100 ألف من السكان. وفي 40% من الدول لديها أقل من سرير استشفائي واحد لكل 10000 من السكان.
وعلى الرغم من الخلل في السياسة الصحية «العلاجية»، التي تتجاهل الأزمة في نمط الحياة، إلّا أن هذه الأرقام تؤشر على مدى تغييب الأزمة العقلية من السياسات الرسمية لغالبية الدول.

حجم الكارثة العقلية التقريبي

بسبب غياب السياسات العقلية في العديد من الدول، تبقى الأرقام والإحصاءات العالمية غير دقيقة، لا بل تكون قاصرة ومختزلة نسبة للواقع الفعلي. وعلى الرغم من هذا القصور إلّا أنّ التقارير تشير إلى وجود حوالي الـ 800 مليون شخص حول العالم (في الـ2017) يعانون من الاضطرابات العقلية المتنوعة. وتتوزع بغالبها بشكل أساس على الإكتئاب، والقلق، واضطراب ثنائية القطب (Bipolar)، الفصام، واضطرابات النمط الغذائي، واضطرابات استخدام المخدرات والكحول.
ومن المقدر طبعاً أنه مع تعاظم الأزمة الرأسمالية العالمية منذ الـ2017 فإن الأرقام أعلاه لا بد من أنها تعاظمت أيضاً، وخصوصاً في ظل السنة الحالية، التي عانى منها العالم من انحسار في النشاط البشري نتيجة الكورونا، وإجراءات الإغلاق، وما يعنيه ذلك من انغلاق في الأفق العقلي وتداعياته على الصحة النفسية.
واذا اعتمدنا مؤشر DALYs: Disability-Adjusted Life Years (العجز- التلاؤم لسنوات الحياة) الذي يقيس نسبة التعطل في حياة الفرد ربطاً بالاضطرابات العقلية، فإن النسب عالمياً ارتفعت منذ الـ 1990 بشكل ملحوظ. نجد مثلا: أن الرقم في أنغولا ارتفع 153%، وبوليفيا 132%، وكمبوديا 124%، وبنغلاديش 180%، واليمن 118%، وأوغندا 129%، وتنزانيا 112%، وطاجيكستان 100%، والسنغال 103%، السعودية 117%، روندا 210%، البيرو 110%، ليبيريا 192%، ولبنان 101%، ولاوس 150%، وأريتريا 126%، وإثيوبيا 204%، وغواتيمالا 106%، وهاييتي 103%، وإيران 128%، ومالاوي 123%، والنيبال 166%، والنيجر 138%، وعمان 126%... وتشير الأرقام إلى تضاعف النسب أكثر من مرة أو مرتين في هذه الدول، دون أن يعني أن النسب في دول أخرى كانت أقل ازدياداً، فهي في غالبها اقتربت من التضاعف مرة واحدة (حوالي 100%) مثال: المغرب، وميانمار، وموريتانيا، ومالي، وبينين، وبوركينا فاسو، وبوروندي، وجزر القمر، وجيبوتي، ومصر، والاكوادور، وزامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، وهندوراس، وكينيا، مدغشقر، وموزامبيق، ونيكاراجوا، ونيجيريا، وباكستان، السودان وجنوب السودان، دول جنوب آسيا، توغو، تركيا، وتركمانستان... تضاعف إذاً البؤس العقلي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في مختلف الدول بغض النظر عن الظروف الخاصة للدول.
أما الدول الأعلى عالمياً حسب التقارير، من حيث هذا النوع من الاضطراب، فإن أستراليا تعبّر عن أعلى نسبة (10,74%) من عدد «السنين المهدورة» التي يقع فيها الإنسان في العجز عن التلاؤم مع المجتمع. تليها السعودية (10,14%) عمان (10,11%)، إيران (9,81%)، تشيلي (9,03%)، ومن ثم تتراوح النسب الأقل بين 7 و9% وفيها تتموضع أغلب دول العالم: أغلب دول أوروبا الغربية والشمالية، والولايات المتحدة، وكندا، بعض دول شمال إفريقيا (تونس، والجزائر، وليبيا، والمغرب)، وأغلب دول أمريكا اللاتينية: البرازيل، والبيرو، والأرجنتين، والباراغواي... أما النسبة في الصين فهي 6,9% وفي روسيا 3,94%، وفي أغلب الدول الإفريقية فهي أقل من 3%.
أما أقصى أشكال الأزمة العقلية المتمثلة بالفصام، أو انهيار علاقة الفرد بالواقع بشكل كامل، فإن النسب منذ التسعينات قد ازدادت بشكل متوسط بمعدل 5% عالميا. وحسب تقارير الأمم المتحدة، يعاني 20 مليون إنسان حول العالم منها، وهذا الرقم ولا شك سيزيد، فالأزمة منذ التسعينات كانت أزمة في نمط يتحقق ولو بشكل مأزوم (قلق، اكتئاب..) أما اليوم، فهي أزمة النمط وتعطل تحققه والذي يكون الفصام كأبرز دليل عليه.
إن هذه الأرقام لا تُعبر بالضرورة عن الحقيقة، لسبب ذكر سابقاً حول غياب الإحصاءات الرسمية الفعلية لمدى اتساع الاضطراب، فتقرير الأمم المتحدة حول الصحة العقلية الصادر في 2017 (أطلس الصحة العقلية) يشير إلى أن 37% فقط من الدول الأعضاء تجري مسحاً للمعطيات حول الصحة العقلية في القطاع العام، و29% فقط من الدول تجري دراسات إحصائية للمجتمع بشكل عام. وهذا ما يرفع النسبة المعلنة بشكل كبير، ويعطينا صورة أوضح عن أي الدول التي تعاني أكثر من غيرها، فحسب التقرير إن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل تغيب فيها هذه الإحصاءات بنسبة 25%، بينما هي في الدول الأعلى دخلاً حوالي 9%.
إن الأزمة العقلية شاملة لدول العالم كلها، على اختلاف مستوى المعيشة فيها، وتعكس بشاعة المجتمع الرأسمالي غير القابل للحياة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
983
آخر تعديل على الإثنين, 14 أيلول/سبتمبر 2020 12:30