عالم جديد يولد  وماذا عن الإنسان الجديد؟
محمد المعوش محمد المعوش

عالم جديد يولد وماذا عن الإنسان الجديد؟

إن أزمة العالم الرأسمالي هي أزمة نمط حياة شامل لكل المستويات: السياسية والاقتصادية والفكرية. إنها أزمة إعادة إنتاج المجتمع كمنظومة من العلاقات والممارسات. على المستوى المجرد، هي أزمة حركة تاريخية، وعلى المستوى الملموس هي أزمة نشاط بشري يتمثّل في حياة الأفراد اليومية، وميادين هذا النشاط. وكونها كذلك، إنها إذاً، في انعكاسها على مستوى الوعي، أزمة التشكيلة النفسيّة للإنسان في المرحلة الرأسمالية. هذه التشكيلة التي تتضمن وحدة التفكير- العاطفة- الحاجات، والعلاقات، وما يجمع هذه المستويات من علاقات وانقسامات. وولادة عالم جديد من رحم الأزمة، تعني تحوّلاً ضرورياً في كل ما سبق. إنها مقدّمة لولادة الإنسان الجديد.

تناقض قوى الإنتاج- علاقات الإنتاج على مستوى الوعي
حسب علم النفس الماركسي السوفييتي، وأبرز أعلامه ليف فيغوتسكي الذي أعلن أن علم النفس وقتها كان بحاجة إلى كتاب «رأس المال» الخاص به، استعارة لـ«رأس المال» الخاص بماركس على المستوى الاقتصادي- السياسي، إن عمليّة انعكاس الواقع على مستوى الوعي ليست سلبية، بل يشكِّل نشاط الفرد (محَدَّداً بدوره الإجتماعي، وبالتالي موقعه الطبقي) أساس فعاليّة هذا الإنعكاس. النشاط كـ«مِطحَنَة» العناصر الاجتماعية من جهة، والعناصر الفردية (من قدرات دماغية كامنة، وحاجات فيزيولوجية، ولاحقاً الحاجات الجديدة) من جهة أخرى. فتتشكل التشكيلة النفسية على أساس هذا الإنعكاس النوعي، لا كانعكاس مِرآوي. المقصود بالتشكيلة النفسية تلك العمليات والبنى العقلية- العاطفية، وقوانين حركتها الداخلية الموضوعية، والعناصر التي ستنولد جرّاء هذا الانعكاس، كالشخصية الفردية مثلاً كظاهرة تاريخية متحوّلة.
وهذه التشكيلة النفسيّة ككل متحرّك، هي تعبير عن وحدة النفسي- الفيزيولوجي، حيث لا ينفصل مسرح هذه العمليات النفسية (الدماغ، والجهاز العصبي ككلّ، وبالتالي: الجسد وعملياته) عن هذه العمليات نفسها.
ما هي «طبوغرافيا» العالم الداخلي (النفسي) في مرحلة الرأسمالية عامة؟ نتيجة فعاليّة الفرد ونشاطه، يتشكل نتيجة للانعكاس النَّشط قسم من الوعي يمثّل هذه الفعالية المباشرة. إنه ما يطلق عليه التفكير الفردي، الذي يتعامل مع الواقع الذي يحصل فيه هذا النّشاط، وظواهره. وهذا يتضمن حُكماً الثقافة والفكر والعلم في المرحلة التاريخية، التي تنقل الملموس إلى المجرد عبر اللغة. وهذا ما يشكل أدوات التفكير التي يفعل فيها الفرد في الواقع، وفي نفسه في ذات الوقت. إنها تمثل- اجتهاداً- أدوات الإنتاج.
ولكن تشكيلة الفرد النفسية هي في ذات الوقت جزء من العالم الموضوعي الذي يتفاعل معه التفكير الفردي. وهذا يعني القوانين التي تتحكم بهذه التشكيلة النفسية. ما هو جوهر هذه القوانين؟
لا يمكن فهم هذه القوانين دون عنصر أساس هو «الذات» الفردية، التي هي انعكاس مزدوج، الأول: انعكاس متواصل للوجود الفردي ونشاطه، في تميّزه عن محيطه، وانعكاس آخر للحياة الداخلية للفرد كنتيجة لهذا النشاط، والتي تتضمن الحاجات والدوافع ودرجة إشباعها أو صدّها. الذات إذاً هي وجود مادي. فيكون القانون الأساس هو سعي هذه الذات للاعتراف، فتنشأ معادلة الحرمان/التهميش- الرّضا. هذا يُنتِج مستوى موضوعياً من الوجود والعمليات. وهي- اجتهاداً- تمثل قوى الإنتاج الاجتماعي على المستوى النفسي (كما عبّر مهدي عامل)، أي الذات الفاعلة، التي دونها لا يكون نشاط ولا فعالية إنسانية.
وبين القسم المفكّر وهذه القوانين والعمليّات تقوم علاقات، إما علاقات استيعاب وفهم واعٍ لهذه القوانين، أو علاقات صراع وعدم فهم. وفي الرأسمالية، هي علاقة صراع. كون الحاجات وسعي الذات للاعتراف، خاضعة لتهميش الواقع الموضوعي أولاً، ولتشويه الوعي السائد على مستوى القسم المفكّر. هذه العلاقات هي- اجتهاداً- علاقات الإنتاج. وهكذا يتم كبح لقوى الإنتاج (الذات وحاجاتها) من قبل علاقات الإنتاج (الناتجة عن عدم تلاؤم النشاط الفردي، ووعيه الذي يحكم القسم المفكر عبر اللّغة، مع هذه القوانين).

الاغتراب

ما عرضناه أعلاه هو تمثيل حالة الاغتراب على مستوى التشكيلة النفسية. وهي تمثيل للصراع الاجتماعي، وللانقسام الطبقي، على مستوى الفرد. الإنسان في العالم الرأسمالي منقسم على ذاته، يعيش تناقضاً داخلياً.
ونتيجة هذا الانقسام، هناك الاتجاه السائد المأزوم للنظام الرأسمالي من جهة، والمتمثل بنشاط الإنسان والفكر السائد، المأزوم اليوم على أساس الأزمة العميقة للرأسمالية، والتي أوصلت النشاط والفكر إلى مرحلة التعطّل، عبر انهيار صور العالم وسرديّته. من جهة أخرى، هناك اتجاه التطور الموضوعي من أجل نظام بديل يفتح أفق التطور والحفاظ على الوجود. هذا الاتجاه المتمثِّل فردياً بالقوانين التي تحرك الذات، وجوهرها سعي الذات للتحقق ضد التهميش والتغريب. وكما أن حدة صراع الاتجاهين في المجتمع صارت مدمرة لقوى الإنتاج كالطبيعة والإنسان بشكل مباشر، فإن هذا التدمير يحصل في الفرد عبر التفكك في وحدة التشكيلة النفسية، حيث إن علاقاته الداخلية والتي تعمل على تماسكها، تنهار بفعل حدة التناقض الداخلي بين الاتجاهين.

تحرير الكامن

إن هذه العمليات والقوانين الموضوعية في التشكيلة النفسية تشكِّل، حسب فيغوتسكي، المستوى الكامن في الإنسان. إنها وعيٌ كامن. ويعارض فيغوتسكي بهذا المفهوم فكرة «اللاوعي» الفرويدية، ولمدرسة التحليل النفسي عامة، كفكرة مثالية لا تاريخية. وهنا نأتي إلى الاستنتاج الأساس.
إن تحرير الكامن، وتحويله إلى واقع، يتطلب تلاؤما ً بين النشاط الإنساني، وأدوات التفكير، من أجل فهم هذا الكامن من جهة، أي تحويله إلى وعيه، فينتقل من مستوى الضروري إلى مستوى الحرية على مستوى التشكيلة النفسية، فتتوقف هذه العمليات والقوانين عن كونها فاعلة في نشاط الإنسان دون قدرة له على وعيها (مفهوم «اللاوعي») والتقاطها نتيجة فكره المشوّه كتعبير عن الفكر السائد للرأسمالية، كما يقول فيغوتسكي، إن «اللاوعي» هو وجود لنظام من المعاني لم تقدر اللّغة (كأداة للفكر) على التقاطه. ومن جهة أخرى يتطلب تحرير الكامن تحويلاً للواقع يفتح إمكان تحقيق الكامن من الحاجات، المتمحورة حول سعي الذات للتحقق، ومن ضمنها حكماً المأكل والملبس والمسكن والطبابة، كشروط موضوعية للوجود وإعادة إنتاج الفرد، ولكن ضمن منظومة علاقات جديدة، وممارسة جديدة، لا تعيد إنتاج الانقسام. إنها تحويل في الأدوار الفردية، وفتح أفق تطورها الروحي- المعنوي عبر اشتراكية توزيع الثروة والإدارة، في تناقض مع نمط العمل المأجور بشكل أساس.

ولادة الإنسان الجديد

إن ولادة العالم الجديد إذاً ولا شك هي ولادة الإنسان الجديد، كولادة لتشكيلة نفسية جديدة. من الانقسام والوحدة المتناقضة، إلى تشكيلة تعي ذاته وتدير حركتها الموضوعية، كجزء من قدرتها على إدارة الحركة الاجتماعية نفسها. وهذا كلّه ينقذ الجهاز العصبي والجسدي كله من هذا التناقض والانقسام المدمّر، ويلد شخصية الإنسان الجديد التي لم نر إلى اليوم إلا تباشيرها الأولى. الإنسان القوي، الهادئ العالم، ويملك قوة قبضته على حركة التاريخ وعلى حركة الوعي. ولهذه الولادة علينا أن نهيئ العناصر، وأهمها: صورة العالم الجديد ونظام معانيه، وتأمين قاعدة تماسك جديد للتشكيلة النفسية المنهارة والمنقسمة على نفسها، وتمليكها ناصية إدارة أزمتها، وأن نرى هذا التعقيد كلّه، ضد ما سنراه من تبسيط وشعبوية وموروث ليبرالي منحط انحطاط قيم المجتمع القديم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
961
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:17