الماضي والمستقبل في رحلة الزمن؟!
أحمد علي أحمد علي

الماضي والمستقبل في رحلة الزمن؟!

يتداول البعض فكرة مفادها أن الماضي كان أجمل بكثير، لذا فتعالوا نعود إليه، فكما يبدو؛ المستقبل لا يحمل شيئاً جيداً، ويتنهّدون: «يا ليتنا نعود إلى الوراء»!

دعوة حمقاء!

يتضح من أحاديث معظم هذه الفئة بأن «كروت» الدعوة التي لم نستلمها بعد، والتي نرفض استلامها؛ هي إلى ما يمكن تسميته بـ«الماضي القريب»، أي إلى ما قبل خمسة عشر عاماً أو أقل في الحالة السورية مثلاً... أية دعوة حمقاء هذه؟! هل نعود إلى ماضي أنتج الحاضر الماثل أمامنا بكل مشاكله ومآسيه وآلامه؟! من البدهي والمنطقي أن عودة كهذه لا تنتج ما نريده حقاً، لا تنتج ما ننشده ونأمله بالتغيير والحرية والحقوق والعيش الكريم، فهذا الحاضر من ذاك الماضي بسياساته وعقليّته..

نُكوصٌ معرفي!

لا تغيب عن ذهن أحد الدوافع السياسية والاقتصادية لتسويق مثل هذه الطروحات، فهناك بالفعل من يريد إعادة إنتاج الحاضر بكل ما فيه من كوارث، لأن مصلحته تقتضي ذلك، ودفاعاً عن هذه المصلحة يُوظّف لديه خبرات «علمية»، ومنظّرون من طراز رفيع، وكلّما ساء الحال كلّما اضطر أصحاب المصلحة لخبراء من مستوى أعلى. ونحن هنا نطرح الفكرة بإطار مناقشة إحدى الطروحات النظرية التي تعكس في الجوهر تلك المصلحة..
في البداية نودّ أن نشير إلى أن المشكلة ليست بمدى الرحلة الزمني في عمق الماضي، بل في الفكرة كلّها من رأسها إلى أخمص قدميها؛ فكرة العودة إلى الماضي. هذه الدعوة للعودة للماضي تعكس فهماً ميكانيكياً أرسطياً للحياة، وفحواه: «طالما أن الحاضر سيء إلى هذا الحد فإن الماضي بالتأكيد كان أجمل، بالتالي من الأجدى العودة إليه، إنّه يُشعِر بالطمأنينة»!
ما بين جدران هذا الفهم اعتقاداً بأن الحياة عبارة عن خط مستقيم مائل، ميله سالب.. (من الأجمل نحن نسير بخُطاً ثابتة نحو الأسوأ) وهكذا سنبقى حتى النهاية!
يخالف هذا الكلام بالعُمق فكرة التطور، ومن المفيد هنا استحضار خط ابن خلدون الذي عبّر من خلاله عن اتجاه التطور(خط مستقيم مائل، ميله موجب).. ويبدو جليّاً بأن ذاك السابق هو فهمه المقلوب! ومن المفيد الإشارة أيضاً إلى أن التطور في المنهج العلمي يأخذ الشكل الحلزوني، وقد تم بناؤه من خلال الدّمج بين خط ابن خلدون وديالكتيك هيجل. وفقاً لذلك تكون الرؤية السابقة- التي ترى الأمر بوصفه «دوّامة» وليس حلزوناً- ليست سوى خداعاً للعقل، ومحاولة لتلمّس خيال الماضي الماثل بافتراضاته تحت قبعة الحاضر الواضحة! ويدعى ذلك في التحليل النفسي بالنُكوص «محاولة العودة إلى الرحم»، وهو هنا نُكوص معرفي..

الجانب الفلسفي-الفيزيائي للمسألة؟

يمكن معالجة فكرة العودة إلى الماضي من خلال ربطها بفكرة «السفر عبر الزمن»، إذ أنه وفق المنطق لا معنى لأية حلول من الماضي طالما أنّ العودة إليه في الواقع الموضوعي والعملي متعثرة ومستحيلة. وفي هذا الإطار نجد أنّه لا مفرّ من إعادة التذكير بحقيقة فلسفية علمية لا غبار عليها؛ الزمن يجري باتجاه واحد، من الماضي إلى الحاضر ومنه إلى المستقبل، ولا يمكن للزمن السير بغير هذا الاتجاه لأنه يعبّر عملياً عن امتداد زمني لعمليات مادية مترابطة مع بعضها سببياً (نواتج المرحلة الأولى هي أسباب بدء (دواخل) المرحلة الثانية وهكذا..)، وبالتالي من المستحيل وفق العلم الحقيقي- ونقول الحقيقي لأنه هناك تيار طويل عريض من العلم الزائف يكاد لا يوفّر حقيقة علمية من عمليات التشويه التي يقوم بها- من المستحيل إذاً العودة إلى الماضي لأن اتجاه الزمن والأيام نحو الأمام، وبالوقت نفسه من المستحيل أيضاً السفر بالزمن نحو الأمام، لأنه لا يمكن القفز فوق مرحلة زمنية ما والانتقال إلى مرحلة أخرى، فنواتج المرحلة الأولى هي متطلبات الدخول بالمرحلة الثانية وهكذا دواليك..
هي هكذا إذاً؛ نحن نعيش حاضراً ناتجاً عن سلسلة الماضي بكل تفاصيلها، وفي الأمام مستقبل مفتوح لكل الاحتمالات، فإمّا أن نرسمه بالحلول الإبداعية الجديدة التي تليق بالمرحلة، والتي تكسر سلسلة الماضي وتقطع معها بشكل كامل، أو نذهب إلى حاضر آخر يكون بمثابة نفيُ نفي (بالمعنى السلبي) للحاضر الحالي؛ أشد سوءاً وأكثر ألماً وكارثية..
وطالما أن الزمن يمضي إلى الأمام، غير آبهٍ بالماضي كلّه، فعلى الحلول أن تكون من خارج صندوق الماضي، عليها أن تستفيد من تجارب الماضي، لا أن تكرره بصورة كربونية، عليها أن تكون إبداعية؛ ويعني ذلك أن تنطلق من ضرورات الحياة نفسها، وأن تلبّي متطلبات الإنسان واستمراره، لتساعده في الانتقال من «مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية» وفق تعبير ماركس.

حكم المستقبل!

إن هذا الكلام وغيره لن يُغيّر السعي المحموم لهؤلاء في العمل بالعقلية نفسها، لأن محرّك العقلية هذه هو المصلحة، لكن بظل الانهيار التدريجي المتسارع لـ «الفضاء السياسي القديم»، وبدء عملية تشكّل «الفضاء السياسي الجديد»، تلك العملية المستمرة والتي لن تتوقف؛ يمكن للمرء أن يتساءل ويتنبأ بمصير هؤلاء في المستقبل، تُرى ما الذي سيفعله المستقبل بمن يجهلونه ويديرون ظهورهم إليه في عصر عودة الروح للشعوب؛ في عصر بناء المستقبل الجميل والأحلام الجميلة؟ من المؤكد بأنه سيطلق نيران مدافعه عليهم...!
أمّا نحن؛ وقد انتَشت أرواحنا وعقولنا ببدء ولادة الجديد– رغم مرّ حال مخاض الانتقال- فسنقول لهؤلاء بلسان أم كلثوم ولحن بليغ حمدي: «عايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان»!

معلومات إضافية

العدد رقم:
961
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:18