«الجوكر» وأمريكا المتراجعة في هوليوود!
منذ المشهد الأول في فيلم الجوكر، يظهرُ فيه الممثل خوان فينيكس جالساً أمام مرآة، وصوت مذيع يعلن «الوضع الجسيم الذي تعاني منه المدينة»، مؤكداً «إعلان حالة الطوارئ في المدينة التي باتت أرقى قطاعاتها أشبه بالمستنقعات..»، ومتسائلاً: إلى أين يذهب العالم؟ ومُطَمْئناً مستمعيه بأن «الأخبار لن تنتهي، ستُمَدُّون بالأخبار التي تحتاجونها طوال اليوم..»، ينقلُ الفيلم مشاهديه إلى مرارة الواقع في مدينة «غوثام» المتخيَلة، ممثلاً بشعور «السلبية» المفرطة التي يتعامل خلالها الممثل مع كل ما يجري حوله، محاولاً إظهار «ابتسامة» عريضة على وجهه الملون!
الفنتازيا بديلاً للواقع!
تدور أحداث فيلم Joker في مدينة «غوثام» الخياليّة عام 1981، مدينة تسرح فيها الجرذان وتتراكم فيها القمامة بسبب إضراب عمال النظافة! بطل الفيلم هو الممثل خواكين فينيكس، من أصول لاتينية، خسر 23 كغ من وزنه ليجسد- في أداء فريد- هذا الدور المميز، دور آرثر فليك أو (joker).
من اللحظة الأولى، يتعرض فيها الجوكر للإهانة والضرب المبرح، يُظهر الفيلم عالم المدينة الحقيقي وواقعها السيِّء وما تعانيه من أمراض اجتماعية واقتصادية وحتى نفسيَّة. كما يُظهر الانقسام الحاد في المجتمع بين (من يملك ومن لا يملك)، بين طبقيتين متمايزتين: طبقة حاكمة متعجرفة وأدواتها، وطبقة عاملة مطحونة وغاضبة.
رجل القاع أمام الرجل الخارق
رغم خروج الفيلم عن «التيمة الهوليودية التقليدية» عن الخير والشر « المطلق» والرجل الخارق الذي يهبط من السماء- أفلام باتمان الشهيرة- فيقوم بإنقاذ المدينة «غوثام» نفسها من الشرّ، إلَّا أنَّ الفيلم لم يتجاوز تحدي الواقع في إظهار مآسي المجتمع الغربي كما هي، بل هرب إلى الفنتازيا بشكل غير مبَّرر، ولجأ إلى فكرة المدينة الخيالية!
قدّم الفيلم أحداثه كاملة من منظور بطله (الجوكر)، إنسان مهزوم ومسحوق من الداخل وغاضب إلى أبعد الحدود، رجل ينتمي إلى القاع، يعاني اغتراباً فظيعاً، نتج عن ظروف اقتصادية واجتماعية قاهرة مرّ بها. يعاني آرثر من اضطراب نفسي لا إرادي يتسبب له بـ«ضحك وبكاء مَرَضي» يجعله يضحك أو يبكي لا إرادياً، ولأنه يعتمد على خدمات الضمان الاجتماعي للعلاج، فإنه يقوم بانتظام بزيارة أخصائية اجتماعية، بغية الوصول إلى الأدوية النفسية التي يحتاجها والمدعومة من الحكومة.
«إنهم لا يهتمون بشأنك على الإطلاق»
تحدث نقطة التحول الفاصلة في شخصية البطل عندما تخبره الأخصائية في أحد الأيام أنَّ تمويل الضمان الاجتماعي الذي كان يستفيد منه قد انقطع مؤكدة له: «أنهم لا يهتمون بشأنك على الإطلاق». تحيلنا هذه الجملة إلى الأغنية المشهورة لمايكل جاكسون «إنهم لا يهتمون بنا»، فالنقد الذي حملته كلمات هذه الأغنية حيث: (الكل أصبح فاسداً والوضع يتفاقم/ والكل أصبح مدعياً في بطانة الحاكم وفي الأخبار/ إنهم لا يهتمون بنا..)، فيها الكثير مما جسّده بطل الفيلم.
تحيلنا هذه الحادثة أيضاً إلى ما حدث فعلياً في الولايات المتحدة، حيث ألغى الرئيس رونالد ريغان قانون أنظمة الصحة العقلية لعام 1980 الذي أصدره جيمي كارتر، ودفع بالعديد من الأشخاص الذين كانوا تحت المظلَّة التأمينية إلى الشوارع، مما أودى بهؤلاء لاحقاً إلى أن أصبحوا نواة أزمة حقيقية وكارثية شهدتها مدينة نيويورك حينها، وهو ما لم يستطع الفيلم قوله صراحة.
تأثَّر آرثر فليك في الفيلم بهذا القرار، وتوقَّف عن أخذ الدواء الذي كان يحفظ له توازنه. وتسبب له بفصله من عمله ثم لاحقاً بجريمة قتل! إن التسلسل المأساوي لأحداث الفيلم يفضح الهشاشة التي يعاني منها المجتمع الأمريكي. فحجم الاستلاب والاغتراب الذي يعاني منه المواطن، ويدفعه إلى تعاطي الأدوية النفسية بكميات كبيرة كان سببه الأساس هو بنية النظام القائم نفسه. تكمن المفارقة هنا في أنَّ الحكومة ألغت الدعم عن الأدوية التي أنتجت هي أسباب الحاجة إليها! حاجة لا يبررها سوى محاولة النظام الرأسمالي تدجين مواطنيه وتكييفهم مع مساوئ النظام وما أنتجه من أمراض نفسية ومشاكل اجتماعية، جعلتهم مضطرين لتناول الأدوية النفسية دائماً وبكميات كبيرة ومراجعة العيادات المتخصصة بهذا المجال، آملين تخفيف حالة الاغتراب التي يعيشونها.
«اللعنة على كل هذا النظام»
اعتمد الفيلم على الرَّمزية بوضوح، فضحايا جريمة القتل الأولى لآرثر هي لشابين من وول ستريت. يتحول القاتل الغامض الذي يرتدي زيّ المهرج بطلاً شعبياً للفقراء فيرتدون أقنعة المهرِّج لاحقاً ويثورون على الأغنياء! يصرخ أحد المتظاهرين: «اللعنة على كل هذا النظام»، يُكملُ المشهدُ تصوير الناس في الشوارع حاملين لافتات تقول: «كلنا مهرجون»، ردَّاً على المرشح لمنصب العمدة في المدينة توماس واين الذي يؤكِّد أن «هناك عيباً في هؤلاء الناس»! ويسخر منهم ومن مطالبهم ويصفهم بالمهرجين. ولكن شحنة الغضب العالية التي حملتها هذه المشَاهد لا تؤدي إلى شيء! تلعب الصورة هنا دوراً ذكياً في نقل الجمهور إلى أحداث مشابهة وقعت في بلدان المنطقة ، رُفعت فيها شعارات شبيهة بما عرضه الفيلم ولكنها لم تؤدِّ إلى نتيجة!
«الأزمنة الحديثة»
اعتمد الفيلم على المفارقات، منها مشهد هتافات الناس ضد الأغنياء ومرشحهم ومطالبتهم بإسقاطه، أمام مبنى المسرح الذي يتسلل إليه الجوكر! حيث يجلس الأغنياء في مقصوراتهم وتحت حماية «البوليس» ليحضروا عرض فيلم «الأزمنة الحديثة» لتشارلي شابلن! الفيلم الصامت الذي يفضح ممارسات النظام نفسه!
شكَّلت الرموز والإشارات أرضية اجتماعية غنيَّة لأحداث الفيلم، لكن هوليوود تحاولُ جاهدة إخفاء وجه «أمريكا المتراجعة»! ففي نهاية الفيلم يصبح الجوكر نزيلاً في أحد مشافي الأمراض النفسية يراقص فيها أوهامه وحيداً! تختزل هذه النهاية ما أرادت هوليوود قوله فعلاً وبوضوح، فالنتيجة أنه ليس هناك حلول حقيقية، إلا بما يسمح ببقاء النظام واستمراره: تظاهروا واشتموا النظام في الشوارع كما تشاؤون، ولكن لا تقتربوا من أي فعل حقيقي يمكن أن يغير بنية هذا النظام أو ينهيه!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 954